إليك أمي شهد الذاكرة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إليك أمي شهد الذاكرة

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 14 أكتوبر 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

إليك أمي.. شهد الذاكرة

..هيام فؤاد ضمرة..

أمُّ عدنان.. أمُّ ذلك الشاب الغض، وقد تفلتت روحه في لحظة غادرة من بين أنامل التشبُّث والحُلم، لتحلق في برزخ اللا وجود حيث تجد الأرواح مأمنها وملجأها، فتسبح هائمة متخففة من كل عبئ، لا تني تتوحد مع عالمها الشفيف، انتزعته يد الغدر ملاكا تعبق بروحه فوحا ندياً تاركاً أجمل الأثر، تاركا الكلم بأعقابه يُجرِّح عيون الأم، ويغوص وجعه بأعماقها حتى كبدها، ليطفو بين حين وآخر، ويُحوِّل عيناها لشلال ملح حارق..

الرحمة يا أمي لعيونٍ ما جفَّ دمعها، ولا توقف احتراق جفنيك وذبولهما على جلف الفقد، لقلبك الرحمة وهو الذي على الحد الثلم انكسر، ولم تجُد الدُنيا عليك بما يُلئم ذلك الفتق الكليم، وأنتِ الأم الرؤوم إبنة الأصل الكريم.. وأنتِ أمي وتاج راسي، ومصدري وبيت تكويني، مُوَّرثة عبق عِطري وفوح طبعي، ولقاح زهري، لتكوني أصل روضي، ومعبر فوح عِطر أجدادي الذي منك يَصلني، لاستطعم من أصولي أجمل فصولي، وبياضٌ ظل يمتد الى المدى البعيد غير عابئ بالمسافات، مفترشاً عالم قريب جدا لخطواتي.

وفاطمة هو وسمك وإسمك وذروة تمثلُكِ خلقك القويم، الإبنة الوحيدة لعلامة فقيه، أورثك معاني السمو في كل عمل سديد، فكنتِ مِثالا للوفاء والفداء يحتذى، ودرة تزين صدور السادرين على المدى، تحمل ملامحك جمال الطاهرين، ونور وجهك يشع في كون الواعدين.. لإسمك تخضع المعاني الساميات، فأنت يا أمي بلسم حياتنا ونبع تأدبنا، والومضة المستمرة التي لا تفتأ تتقدمنا كدليل الأمن والسلامة والدفء المتين.

وأنتِ النبض الحيّ الساري بأوردتي، والقدوة الساطعة الضياء في كياني، والحرف العالي المقام، المتسامق البيان، النابت من جذور الأصالة بأوفى جذالة، فكل ما فيني أنتِ وكلّ ما منك هي أنا، وضفافي ما زالت تعانق ارتماء موجك على صدر شوقي، ليس تنتهي عندي، أتشربها وأروي من عذبها نشئي، رحيلكِ عن فضاءاتِ حياتي جعلها جافة، وقد انغلق باب لطالما عبرناه بجذل من عاش مظاهر المرح السعيد، وأغلق بيتاً لطالما شهد صبوتنا وفرحة مراحلنا، هنا.. في هذه الدار داركِ ترددتْ أصواتُ ضحكاتنا، وهناك مارسنا تأملا وجدالا وشجارا، كنا هناك يا أمي حياة ملؤها الأحلام.

فريدة كنتِ يا أمي، وفريدة ظللتِ كأنك من جنس التابعين من الأولياء الصالحين، طاهرة عفيفة حيية.. عظيمة في قدرتك على الاحتمال، صبرك.. عزمك.. تضحياتك.. عطاؤك.. أسوارك، يا الله كيف كنتِ وظللتِ وعشتِ وجها تتحوطه هالة من نور، ما انتظرتي يوماً منا سداداً، ولا سألتينا يوما وفاءاً، كنت تمنحين وتعطين وتهبين مقابل القليل من مظاهر حبنا مما نتذكر عرضاً أن نهبك إياه، والحياة كانت تجعلنا كرة طائرة تتردد بين متطلباتنا التي لا تنتهي وخوفك من أن يعتريك شعور القصور، كنت تركنين الساعات والليالي والأيام وراء ماكينة الخياطة، فيما هي تواظب على إطلاق طرقعاتها دون كلل، وعيناك تلاحق غرزها ومسافات انسيابها على القماش.. كم هي الحياة جدية لأقصى مسافاتها، تجعلك تدور فيها كالساقية لا تستطيع الخروج عن مسارها، لكن العطب قد ينهي عملها، حياة لا تمنح غير المجتهدين غير الفقر والفاقة، وأنت يا أمي كنت للجد بالجهد عنوان عظيم.

كنتُ حينها مُغرمة بمراقبتك، يَحدوني ذلك الأمل المُكلل بالشوق لأن أكون بذاتِ عَزمك وجلدك، أن أحول لعب طفولتنا منسوخا عن مثل دورك في التضحيات، فكنتُ منك؛ وكنتُ بحجمك حين اختبرتني الأقدار، ووضعتني على عتبات الحياة وحدي، وقد رحل عني شريك حياتي، وتركني وسط مسؤوليات تكبرني بأضعاف من حجمي، ها هي السنوات تمضي تباعا والعمر يتقدم بي، وها هي أمراض الكبر تلاحقني ككلب مسعور يوشك أن يفتك بي، لكن صورتك دوماً ظلت تتمثل أمام ناظري، فتشحنني بالعزم والإقبال، بالصبر والصمود، بقوة الدفع قدما دونما خوف، وكلما حققت نجاحاً في تعدي التحديات، كلما فاض فرح النصر داخلي وتعبأت رئتي بأنفاس السعادة والرضى.. 

واه يا أمي ما أجمل الروح التي تسكنني منك، ما أجملك حين تكوني بلسم جراحي وعقار شفائي.. ما أجملك وأنت لصيقة عقلي وعقالي وبناني، لا تفارقين تفكيري إلا لأكون النسخة المتممة لخصالك، أنبض بكلِّ نبضك أمزج روحك بروحي لأتساوى بك، وأعادل بيننا على ذات المنسوب من الارتفاع..

إيه يا أمي لو تدرين كم تمر صورتكِ دوما على شاشة معروضات البال والشغف يقرض عقلي وكياني، أراك كما كنت أراك بوجهك البض الصافي الجميل الرائق الملامح، الهاديء المنساب كالماء على السطح الأملس، بمبسمك الذي يكشف عن سنك الذهبي كلما شعَّت ابتسامتك وأضاءت الكون.. أكاد أرسل ساعديَّ ليحتضناك، وأترك شفاهي تعبَّان من أسيلك العذب، ودبيب روحك تُدَغدِغ مكامن شوقي ولهفتي واشتياقي.. إن حدة الشوق تأخذني للأقاصي إلى حيث نفسي تعصي أوامري، فأراك تناديني لتؤكدي لي أنك افترشت لي مكانا قريبا منك.. تماما كما ذلك الحلم الذي طوحه الليل بفضاء حلمي ذات ليلة مضت، فيما كان البياض الملائكي يمثل ثوبك وفراشك وطرحة رأسك.. بياض ساطع يعلن عن مرتبتك السامية في الجنان.. وكأنه شُقّ عن بياض قلبك الطاهر وبياض نواياك الذي تعكسه سحر ابتسامتك.

شغفة أنا يا أمي بصوت عصافيري الصباحية على قارعة الأغصان المتشابكة قريبا من نافذة غرفتي، وهي تدير حوار زقزتها، غريدا يشدو لحناً شجياً من كل مراتب الفرح، إذ كنا نحن من نصنع سعادتنا من نفس مادة براءتنا، فلم لا نترك لأصواتنا الحرية لتصدح  بنشاط تراتيل الفرح الصباحي، فعلى ما تبدأ عليه صباحك يأتي نهارك باستمرار ما تعبأت به نفسك.. لذلك يا أمي أحب أروع ما أحب، صباحا أبدأهُ معكِ وبكِ، استنهض فيك حرفي ومنسكبي، ليشدو بك فرحي بالصوت الذي اعتدته يُشجيني، فحسبي تلك الطاقة التي تعبئُ أوصالي من أدنى أقدامي حتى هامتي، فيفيض عقلي بها، ويتفاعل مع كيميائيتها، فيأتي ناتجها شلالا متدفقا غني الزلال، عميق المجرى، قوي الدفق، فأي حب هائم بعد كل المشاعر يأتي حبك مُحملاً بالنور، بالسطوع، بكل أصناف العطور

يا خريفي المتهلهل القسمات.. يا مَكْبري ومَنْظري المُتقلِّب على كل التغييرات، هاك بياضي يتناسل فضة وبريقا، هاكِ أنفاسي المُتعبة تُغلق عليَّ كلُّ طريق، وخطواتي ترتبك على أول الخُطى لآخر الدرب العتيق، مهلاً يا عمري المتسارع الخطو نحو نهاية النهاية ما زال بعيد، وما زال على الصمود عنيد .. عذرا يا عمري المديد! ليس الآن أنوي أن أرحل، لست أستسلم للغياب وألقي سلاحي وعتادي وأرفع رايتي البيضاء.

لن أقول وداعا وألقي عن كاهلي حقيبة أعمالي، يا أمي وملكة نفسي لن أكون إلا مثلك أبية عنيدة، أطلب الموت حين يحين أجلي صامدة قوية، وأطلب الحياة حين تمكني من نبضها العفي، فما زال بيدي فأسي، وبرأسي ألف قضية، وبعقلي فكرة ندية في وجيبها عفية، عذرا يا قدري كن بي مُتمهلا، كن معي في العمق متغلغلا رحيماً سجيا، ليس الموت اليوم زائري حتى أزرع فسائلي في طرق العابرين غُدُوةً وعَشية، لمن يهزون النخل بأنفاسٍ رضية، بعزيمة سامية، فيتساقط إليهم رطبا مما يهبه الله لهم رزقا حلالاً وشربة هنية.

ها هو يا أمي يداهمني الزمن في تقدم عمري، ويتناسلني الضعف خيوطا متشابكة، وتصبح أنفاسي مرهقة تتلكأ على رئتي وتدور، والناس تسمع جرشها كأنما في مسنناتها كسور، وانا أكابر، أصابر وأدور، ليس يهمني ما تبقى من مراحل عمري، ما يهمني أني لن أستسلم إلا حين يباغتني جذع الحياة منكسراً، كأنما هو سداً من طور، أو جناحان هاربان تسدان جموع تلاقيها مع هجرة الطيور.

حسبي يا أمي أنك ما زلت تنبضين في شرياني، وتتحركين عبر أوردتي، لتدوري مع رحلة دمي النقي، وكل رصيدي منك تلك الحكمة وذلك الشعور، ووعد مع ربي بألا أضيع عن حسي الوديع ذلك الطيف منك وذلك الحبور، وأني بك أكبر سعيدة والشمس تملأ دنياي انتصاراً لذلك النور، ولتلك المرابع المزهرة بالورود، وسنا ضوء مشع يتوسع في فسيح الصدور.

ليتني يا أمي بقيت على وعي الطفلة الغارق في المخيال، تلك التي فهمت الموت على أنه رحيلٌ إلى قارة البعيد، القارة التي كانت تبتلع المسافرين إليها وتغيِّب أثرهم بلا  أدنى خبر، يتلاشون في متاهات ضياع دونما احتساب ما في الأهل من التياع، لكن العقل وحده يظل يوسع موقعاً فسيحاً لأمل العودة المحتمل.

 كان إسم القارة أمريكا أسطوري الخيال يتماهى في المهج مع لظى التلاشي الكئيب، يوهمهم بعالم خارج عن هذا الكون، مقتطع من كوكب المحال، يمضي بزائريه في صحراء اغتراب بحثاً عن الثروة والأمن، لكنها سرعان ما تبتلعهم وتمسح أثرهم، فلا يبقي منهم غير ذاكرة أكلَ عليها الدهر ولم يبقي، فأخفى الشخوص وطوى من أثرهم كل خبر ومقال، وربما سكانه ينقلب بهم المآل ويصبحون على غير ما خلقوا عليه وله، وما عرفهم به الأهل والخلان، وكأنهم مخلوقات عجيبة خلقت للزوال، لا يمتّون إلى كوكب الأرض بأيِّ صفة أو حال، وليس الوصول إلى شواطئها يُعني من بهم للهجرة عبرة ومآل..

ليت يا أمي ظل فينا الماضي طليقاً، وظللنا معاً على الحالة التي كنا عليها في زمن التلاشي، على بساطة عيش ذلك الزمن المنطوي في جيب الذاكرة الأمامي، ها هي الذكريات تمر على مقلتي فأفتح عيناي على وسعهما، وكأن الأمس ما كان غارقاً في زمنه الغابر البعيد مُختلطا بالأحزان وملامح الأمان معاً بتمازج عجيب، حين كان المجتمع نقيا عفياً يحس فيه الجار بمسؤولية نحو جيرانه، وبرباط ناسه بأسرتهم الممتدة الكبيرة والصغيرة،

وعمان المدينة الفتية الجميلة تحتضن عيوننا في أطلالة من شرفة بيتنا إلى جبل القصور المقابل العاري من المنازل الحجرية أو الاسمنتية، أناظره بشغف طفولي بريء ،معتقدة أن يوماً ليس بالبعيد سيأتي ها هنا، وستهبط على قمته الطائرة المارة من فوق بيتنا بهديرها الداوي المخيف، ليهبط منها والدي وشقيقي عدنان ملوحين بأيديهما، فيا لعقل طفل داعبته أنامل الخيال لتعبث بمكونات تهيوءاته، فينطلق مزهوا بمخرجات أحلامه من أعماقه حتى عقر المحال، ظللت أنتظر عودتهما وأغرد لحلم المشتهى، وأهتف للفرح بهداياهما التي لن تكون كأي هدايا وهما العائدان من بلاد الأسطورة.

لست أدري متى وافاني الوعي خالعاً عن عقل الطفلة معطف أوهامها، ليتجرَّح القلب أساً، وتذرف عينا الطفلة التي كبرت فجأة دموعها بصمت كليل، حين اكتشفت أنها مجرد طفلة علق اليتم بأكنانها وملابسها فصارت لوحة اليتم التي رسمها القدر بحبره السري، حتى ما عادت الحقيقة تشف عن الحقيقة، فعاشت يتيمة ليس من أحد يلقى لها بالاً، أو حتى أن تحلم بأحضان أبٍ غيَّبه الموت، عندئذ ابتدأت تنتابني مشاعر الفقد، وما ينتابه عقل الفجيعة.. فيا لألم الفجيعة حين تأتي متأخرة كثيرا عن زمنها ..

لكنك يا أمي كنت الحضن الذي يتلقى بالحنان رأسي المُثقل، وكثيرا ما يحترقُ قلبي لك شوقا كلما طال ابتعادي عنك لأمر ما،

والبنت الصغيرة بالبيت هي محور ارتكاز في تقديم الخدمات الطارئة للجميع، يقصدونها في تعبئة كل فراغ طارئ لأي من أفراد الأسرة، فهي التي تقضي حوائجهم البسيطة من البقالة أو المخبز، أو في توصيل طبق من الطعام للجارة القريبة، أو القيام بمهمة الرسول بين الأم وجارتها، والشقيقة وصديقتها، والرفيق المؤانس في الحالات الطارئة لسفر أزواج الشقيقات الكبريات، كيف لها الذاكرة أن تسكب كل هذه الذكريات في وعاء واحد، وتضع بنفس الوقت علامة السؤال في نهايات الأحداث، حين تصبح الأشياء أكثر وضوحاً يبدأ الألم يعشش في الوجدان، الطفوله تجعل الصور غائمة غير واضحة، والوعي يفتح ضوءاً كاشفاً ليمنح وجه الدنيا كل الألوان ويحدد اتجاهات حدودها.. فينتعش مستنبت الألم مُخرجا زرعاً يفيض بالشوك.

لكن الصغير الضعيف غالباً ما يتخذ مواقفاً من صنع ذاته، تأتيه كما الإلهام لتشكل درعه الواقي بشكل لا إرادي، والطفولة تعيش ظامئة للكلمة واللمسة الحنونة فمن ذا يصد صدراً فاض بالحنان، وعشعش الحب بين جنباته، من سواك يا أمي يروي ظمأي، ويحسسني أني الإبنة الأثيرة بين كوكبة الأثيرات.

ورغم مأثرة الحنان، ظل للابن الوحيد في الأسرة قيمته العليا وحظه الفريد من الاهتمام، بحيث لا يُضاهيه بالدلال والاهتمام أحد، ربما كرد فعل لا إرادي نحو كونه الإبن الوحيد بين نصف دستة من البنات، وكونه الأصغر بالمطلق والأحوج إلى الاهتمام والرعاية، لم يكن ذلك يقلقني رغم مرتبتي التي تسبقة مباشرة، بل جعلت من نفسي أماً بالعينة المُصغرة ترعاه وتلاعبه وتحرسه من أي ضرر، كنت سعيدة بمهمتي هذه طالما الأثرة ليس فيها مبالغة، أقنعت نفسي أن أخي صورة مصغرة عن رجل بالغ، والرجل في الأسرة يتلقى كل الاهتمام من كافة أفراد الأسرة على أنه قائدها الأوحد الذي يوجه مركبها.

تستقر في ذاكرتي بعض المشاهد التي تخزنت بصورتها السليمة، تظل تطفو على السطح وكأنها اتخذت موقعها القريب حين أتناولها للمهمة السريعة، بعضها أليم للغاية يحتفر موقعه بذاكرة الوجع، وبعضها لفرط سعادتي بها أحيطها بإطار ثمين من الغبطة، هكذا تتكون المواقف في الذهنية الطفلة يا أمي، فأوتار الطفولة تظل على طبيعتها البريئة، تمنح لحنها التلقائي دون أن تزوقها الرتوش ، وتهتز تحت أنامل العازفين بالتحنان لتصدر انبعاثات الجماليات البريئة.

كالعادة كنت في مهمة لشراء أشياء الفطور الأثير من الحمص والمُسبَّحة والفول المدمس والفلافل، ليكون زاد الأسرة لصباح تتصدر الشمس أفقه، وتمنحه الدفئ الجميل، تأبطنا أنا وأخي أطباقنا الزجاجية وجملة من النصائح والتنبيهات تعودتها من أمي كلما اضطرتني في مهمة لقضاء الحاجات من المحال القريبة من بيتنا، تحولني لطلق ناري سريع في الذهاب والإياب، وتأدية المهمة على أكمل وجه وبأسرع وقت، لايشد اهتمامي غير مهمتي التي أوكلت إليّ، أقسِّم اهتمامي بين قضاء مهمتي وبين الاهتمام بسلامة أخي.

تقاسمنا أنا وأخي حمولتنا في طريق العودة حين أخذتني لفتة سريعة فإذا بي ألمح ابن الجيران الغائب عائد من سفرة بعيدة طويلة، يحمل حقيبة السفر المحكمة الإغلاق بالقفل التقليدي الصغير، يقف في مواجهة البقال ليرد تحيته ويجيبة على بعض أسئلته عن سفرته الطويلة، لست أدري لم واتتني فكرة الإسراع بالعودة وحمل البشرى لوالدية، سلمت لوالدتي الأطباق الملأى، وانكفأت عائدة أدراجي باتجاه بيت جارنا الملاصق أطرق بابهم بكثير شوق والابتسامة المحببة تملأ صدغيّ، فظهر الوالد بملابس نومه يفرك عيناه ويتثاءب تحت تأثير الصحو المبكر، وبفرح طفولي أبلغته الخبر السعيد المقبل على الظهور، فنفض رأسه وهو يتأمل ملامحي السعيدة، وبدا بعد لحظات وكأنه استوعب الخبر، فهتف مهللاً فرحاً واستدار نحو زوجته يبلغها بالخبر السعيد بعد أن أعاد سؤال التأكيد، أبديت الفرح لفرحهم، وقفزت بنشاط مستديرة نحو بيتنا حيث الوجبة الأثيرة، وإذا الأب يجري خلفي ويضع مبلغا هائلاً بقيمة الطفولة بيدي، فرفضت بشدة وتعذرت بغضب والدتي، لكنه أصر ورفعني من خاصرتيّ بين يديه وهو يقول يسعد قلب من أنجبوكِ جئتينا بأسعد الأخبار، وأمام غلبة إصراره وافقت والخوف يعتريني من غضب والدتي.

بدا لي المبلغ ضخما ومُرعبا، فيومية العامل آنذاك كانت أربعة قروش، وأنا أتلقى مقابل خبر سعيد عشرة قروش، والدتي زمجرت مُعترضة وعيناها تقدح شرراً، وتلقيت منها تأنيباً شديد اللهجة، وحرت بأمر القروش العشرة، فما كان مني إلا عدت إلى الجيران لأعيد العشرة قروش بأمر من أمي، فجرَّتني الجارة من يدي إلى بيتي وهي تحلف على والدتي أن تسمح لي بأخذها، مما أخجل والدتي وسكتت مغلوباً على أمرها.

وتحولت العشرة قروش إلى قضية اعتراض على ملكيتي لها من قبل الجميع، فصار لزاما على والدتي لاسكات الاعتراضات أن توزع بالمقابل عشرات القروش على الجميع، وكانت القروش العشرة فاتحة مشروع للذهاب الجماعي إلى السينما كباراً وصغاراً وأمهاتاً، وتطوع الجار بمهمة الحجز لأعدادنا الكثيفه على كافة كابينات اللوج داخل السينما، تلك المقاعد الفاخرة التي تتقدم شرفة السينما العليا، مما اتيح لنا الاستمتاع الفريد في ذلك الزمن البعيد، واستكانت شقاوتنا أمام الإنبهار بالمرئيات ومتابعة لأحداث الفيلم.

لله أنت يا أمي الحبيبة كم أثر بي المشهد، وبناءاً عليه زرعت في أبنائي خاصية الصدق والأمانة والايجابية بالتصرف والعطاء، فحملوا عني الكثير مما حمَّلتِهِ أنت إليَّ من خلال قيم تربيتك الراقية، فكنا أجيالا تتابع فينا حسن الخصال.. لله أنت يا ست الحبايب!


  • 1

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 14 أكتوبر 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا