اكراهات المجتمع المدني في تحقيق التنمية المجتمعية
نشر في 18 يناير 2020 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
بعد المشاركة في المساق التعليمي التدريبي "تقنيات المناظرة وآليات المرافعة /المناصرة" الذي اشرف عليه مركز الشباب للأبحاث والتنمية و معهد الفضاء المدني عبر المنصة التفاعلية للمعهد الذي يقدم دورات تدريبية للفاعلين المجتمعيين من اجل تقوية قدراتهم في مختلف الجوانب. هذا المعهد الذي يحاول باستمرار الرفع من مستوى المجتمع المدني بدول شمال افريقيا و الضرق الاوسط و الدول العربية عموما، ارتأيت ان اتحدث عن بعض من مشاكل الجمعيات في علاقتها مع القطاع العام و الخاص، و بعض المقترحات للعمل في اطار من التكامل و التوافق.
يلعب المجتمع المدني دورا مهما في تحقيق التنمية والرفاه المجتمعي في العديد من البلدان، الى جانب القطاع العام المتمثل في الدولة و اجهزتها و قطاعاتها الحكومية، والقطاع الخاص الذي يحاول تحقيق ارباح للشركات التي يسيرها و الاستثمارات التي يقوم بها في هذه الدول. إلا ان العلاقة بين هذه القطاعات الثلاثة لا تكون دائما متجانسة و متكاملة لتحقيق متطلبات الحياة اليومية للمواطنين مما يجعلها في بعض الاحيان تصل الى حد الاصطدام او التضييق على عمل جمعيات المجتمع المدني مع اختلاف كبير من دولة الى اخرى حسب النظام الديمقراطي و هامش الحرية و طرق التمويل التي يضمنها لهذه الجمعيات.
يسعى المجتمع المدني لتحقيق التنمية المجتمعية المنشودة و المنتظرة من طرف السكان وتغطية النقص الحاصل في المشاريع و البرامج التنموية التي تقدمها الحكومات للمواطنين ،في اطار علاقة تكاملية بين جمعيات المجتمع المدني و بين القطاع العام و القطاع الخاص، و هذا راجع بالأساس الى توفره على العديد من القدرات و المؤهلات التقنية و الفنية العالية التي تمكنه من تقديم بعض الخدمات الاجتماعية، الشيء الذي يتيح له امكانية الوصول الى الفئات المحتاجة و استهداف الشرائح التي تعاني من هشاشة اكبر خاصة في القرى و البوادي حيث تقل هذه الخدمات
كما يساهم المجتمع المدني في اغلب الدول في تغيير بعض السياسات العمومية و مراقبتها وتتبعها و اقتراح قوانين على الحكومات و السلطات سواء على المستوى المحلي او الاقليمي او الوطني و يحاول التفاوض و الترافع من اجل ادراجها و تبنيها، لكن هذه المهمة تبقى رهينة بمجموعة من العوامل المتداخلة منها ما هو مرتبط بالمجتمع المدني نفسه و اخرى بالأنظمة السائدة في كل دولة.
يلعب النظام القائم في الدولة دورا اساسيا في تطور المجتمع المدني سواء من حيث عدد الجمعيات او من حيث المشاريع و البرامج التي تشرف عليها و تنجزها، او قوة تأثير هذه الجمعيات في السياسات العمومية و في علاقتها بالسلطة القائمة.
فالأنظمة الديمقراطية في كثير من الدول التي تعطي للمجتمع المدني هامشا كبيرا لتنمية و تطوير قدراته و اداء دوره بالشكل المطلوب لخدمة المواطنين بطريقة تكاملية توافقية مع القطاعين العام و الخاص، مما يسمح للجمعيات بالتطور و يزداد عددها و معه مشاريعها التنموية و الخدمات الاجتماعية التي تقدمها للمواطنين و توفر مناصب شغل مهمة قد تفوق في بعض الاحيان ما يوفره القطاع العام نفسه. هذه الدول التي استوعبت بسرعة دور جمعيات المجتمع المدني في تقوية الدولة و استقرارها قامت بوضع قوانين و تشريعات لحماية و نمو المجتمع المدني و سهلت عليه الحصول على التمويلات الممكنة بل وتشجع انشطة الجمعيات في مختلف المجالات منها الحقوقية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها من الميادين التي تعود بالنفع على المواطن و على الدولة نفسها.
في المقابل نجد الانظمة الشمولية و شبه الشمولية التي ترى في جمعيات المجتمع المدني قطاعا مزعجا و مهددا لاستمرار سيطرتها على الحكم و على موارد الدولة، حيث تعمل هذه الدول على التضييق على الفاعلين و تزج بهم في السجون، و تمنع عن الجمعيات الحصول على التمويلات خاصة الاجنبية منها. و من هذه الدول نجد العديد من دول شمال افريقيا و الشرق الاوسط رغم كل الاصلاحات التي قامت بها في مجال الحريات العامة، الا ان دور المجتمع المدني لم يرقى في قوانينها الى مرتبة القطاع الثالث الذي يساهم الى جانب القطاعين الاخرين في التنمية. هذه الدول تعتبر الجمعيات بمثابة الاطفائي الذي يخمد نيران اخطاء مشاريعها الفاشلة في بعض الاحيان، و اخرى يتم اشراكها في عملية تنفيذ برامج اخرى لاعطاء المصداقية للدولة في تلك البرامج في حين من الاجدر اشراكها في جميع عمليات التنمية من التخطيط ثم التنفيذ الى التقويم . كم نجد اغلب الاحزاب السياسية عمدت الى تأسيس جمعيات تابعة لها و تحاول استقطاب المواطنين من خلال تقديم المساعدات و المنح للجمعيات الموالية لها و تحرم جمعيات مستقلة ذات توجه تنموي محض و تحاول انجاز مشاريع تنموية مستدامة بعيدا عن الاحسان المشروط بالولاء الحزبي، هذه التصرفات ادت الى تشويه صورة المجتمع المدني و افراغه من دوره المتمثل في التنمية المجتمعية.
ليست الانظمة القائمة وحدها من تعيق عمل وتطور المجتمع المدني بل هناك عوامل مرتبطة بطبيعة و تشكيل جمعياته، و منها:
غياب التخصص: نجد اغلب الجمعيات رغم مدة تأسيسها الا ان نطاق اشتغالها لم يتغير و لم تتغير معه طبيعة مشاريعها و لا نوعيتها ، وهذا دليل على ان هذه جمعيات المجتمع المدني ليست محترفة بالشكل المطلوب، ذلك ان اغلبها تشتغل على مجموعة من المجالات المختلفة و المتنوعة كالثقافة و التزود بالماء و البيئة و السياحة و غيرها من المجالات التي تختلف كليا لا في طبيعتها و لا في طريقة معالجتها. و هذا يجعل تركيز هذه الجمعيات يتشتت و تتوزع معها طاقات و موارد كثيرة و تضيع الجهود و معها الاموال و يجعل انجازاتها محدودة و ذات تأثير ضعيف على المعيش اليومي للمواطنين لان مشاريعها تكون صغيرة و ذات مساحة جغرافية صغيرة.
سيادة تفكير القبيلة: هناك جمعيات تم تأسيسها اصلا من طرف سكان القرى فقط لان قرية مجاورة قامت بتأسيس جمعية، و لذلك نجد اغلبها سميت باسماء قراها او مناطقها القبلية مما يحد من فعاليتها و مشاريعها تبقى حبيسة تلك المنطقة و بالتالي فان حجمها و قوتها و تأثيرها يبقى ضعيفا. و هناك جمعيات اخرى تأسست في فترات معينة نتيجة وجود تمويلات خارجية او برامج وطنية تستوجب وجودها مما عجل في عملية خلقها دون مواكبتها بالشكل الكافي في مجال التسيير الاداري و المالي و التقني من اجل ان تكون مستقلة و قادرة على الاستمرار في تقديم خدماتها، و بمجرد انتهاء تلك البرامج بقيت انشطتها جامدة بل و لم يتم تغيير مكابها منذ سنوات .عكس بعض الجمعيات القليلة التي لها صبغة وطنية و امتداد في كل الجهات و استطاعت ان تجعل لنفسها مكانا من بين المجمعيات الرائدة دوليا . كما نجد ايضا منظمات دولية تتوفر على فروع لها في مجموعة من الدول و تنسق انشطتها و برامجها التي تتسم بالتخصص و الفعالية و لها وقع كبير على المواطنين المستهدفين.
الجمعيات الحزبية: نجد العديد من الجمعيات و النقابات تسير من طرف احزاب سياسية بطريقة غير مباشرة، و تحصل على الدعم و التمويل و المنح بطرق غير شرعية، مما يحرم العديد من الجمعيات المستقلة من هذه التمويلات و بالتالي يتم اقصاء مناطق من هذه الدعم. وهذا ايضا نجده في دول كألمانيا و الولايات المتحدة الامريكية لكنه مقنن و تعتبر تلك الجمعيات تابعة للأحزاب بطريقة مباشرة و تحصل على تبرعات و منح تلك الاحزاب بطريقة قانونية و مباشرة.
غياب الحكامة: تعاني العديد من جمعيات المجتمع المدني في العديد من الدول من غياب حكامة داخلية حيث نجد هياكلها الداخلية لم تتغير و لم يتم تجديدها عبر اتاحة الفرصة للشباب من اجل الولوج اليها و صناعة قيادات شبابية جديدة قادرة على حمل مشعل التنمية.
في ظل هذا الوضع من تضارب المصالح و الصورة النمطية للمجتمع المدني يجب العمل على مجموعة من المحاور التي ستجعل الجمعيات و المنظمات غير الحكومية فاعلا اساسيا الى جانب القطاع العام و الخاص في هذه الدول. و من بين هذه المحاور نذكر :
الموارد البشرية : لا يمكن للقطاع الثالث ان يلعب دوره بالشكل المطلوب دون توفر جمعيات المجتمع المدني على موارد بشرية مؤهلة ذات كفاءات تقنية و فنية عالية في مجال التشريع و بناء المشاريع و التفاوض و غيرها من الكفاءات، لهذا وجب على هذه الجمعيات العمل على تكوين و تنمية قدرات اعضائها و منخرطيها توعية السكان و تكوين قيادات شبابية جديدة يمكنها ملء ا لفراغ الحاصل في العديد من المجالات.
الموارد المالية : رغم ان العمل في المجتمع المدني يطبع عليه طابع التطوع الا ان الحصول على الموارد المالية لإنجاز مصاريع تنموية مجتمعية ليس بالأمر السهل خاصة في ظل التضييق الذي تفرضه دولنا على بعض الجمعيات و تفضيل بعضها على البعض. و هنا وجب الاشتغال على كيفية البحث عن التمويلات و تقديم مشاريع تنموية تستوجب لمتطلبات المانحين، و محاولة تغيير التفكير النمطي حول الهبات و الاوقاف التي غالبا ما تذهب لوزارة الاوقاف لتشمل ميادين اخرى كالتعليم و الصحة.
الترافع : قد تضطر بعض الجمعيات لاتخاذ اشكال اجتجاجية سلمية و بالشكل القانوني الذي يتيحه لها الدستور قصد التأثير على الحكومات من اجل تغيير بعض السياسات العمومية التي تضر بالمعيش اليومي للسكان ، او على الشركات الخاصة التي لا يهمها الا تحقيق الربح ولو على حساب المواطن. لكن عملية الترافع ليست بالسهلة و تتطلب وقتا و مالا و نفسا طويلا بالاضافة الى موارد بشرية مؤهلة قادرة على اعداد ملف قوي يمكنها التفاوض به بالشكل الصحيح . وهنا يجب على جمعيات المجتمع المدني العمل على تكوين كفاءات و اطر متدربة و متخصصة في عملية الترافع و المناصرة قادرة على الوصول الى كل اصحاب المصلحة و التأثير فيهم، خاصة اصحاب القرار من السلطات و الحكومات في اطار من الشراكة الرابحة و القطع مع الممارسات القديمة التي تنتهي بالمواجهة و الاصطدام بين الجمعيات و السلطة.
التشبيك و بناء التحالفات: يعتبر التشبيك والتنسيق والتعاون، وبناء التحالفات من العمليات المهمة التي تتيح لجمعيات المجتمع المدني توحيد الجهود و توفير الوقت و المال و الاستفادة من الخبرات و تبادلها بين الجمعيات من اجل تحقيق اهداف مشتركة تعود بالنفع على الجميع خاصة الفئات الهششة في مجتمعاتنا . كما ان هذه العملية تسمح بتشكيل قوة جديدة كبرى من حيث العدد و الامكانيات و القدرات و تشكل صوتا مسموعا يجعلها شريكا فاعلا وقويا في عملية التنمية نظرا لعدد الجمعيات التي يمكنها التواجد و الاتحاد في اطار كتلة واحدة لها رؤية و هدف موحد. و تكمن ايضا اهمية التحالفات في كونها عابرة للحدود الجغرافية و السياسية من خلال تشكيل تكتلات اقليمية و دولية وقادرة على تعبئة السكان بشكل سريع و تجعل الدول ضعيفة امامها مما يجعل هذه الاخيرة تستديب في غالب الاحيان لمطالبها.
ان التطورات التي يعرفها العالم في مجال الحريات العامة يفرض على دول شمال افريقيا و الشرق الاوسط تغيير نظرتها و معاملتها لجمعيات المجتمع المدني و توفير الاطار القانوني المناسب لتطورها و اشتغالها في احترام تام للمواثيق الدولية لحقوق الانسان، و تسهيل حصول هذه الجمعيات و المنظمات على التمويلات المتاحة وطنيا و دوليا دون شروط و لا قيود و تمتيعها بالامتيازات التي تستفيد منها شركات القطاع الخاص خاصة ما يتعلق بالضرائب التي تثقل كاهل العديد منها. لان تطور الدول رهين بتطور المجتمع المدني و ادائه لدوره كاملا في اطار من الشراكة و العلاقة التكاملية بينه و بين السلطات و القطاع الخاص لما يخدم المصلحة العليا للمواطنين و تحقيق تنمية مجتمعية مستدامة.