ريش الملائكة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ريش الملائكة

مقال عن إلهام أحمد

  نشر في 10 ماي 2018 .

"ماء النهر أسرع يجري .. حين دعاه صوت البحر" ..

من هنا كانت البداية .. وأوّل الكلمات التي سمعتها بصوتها .. حينها كنت في المرحلة الابتدائية .. والآن وقد تخرجت من الجامعة منذ أسابيع ما تزال هذه الأنشودة ترنّ في داخلي .. "وللنشيد الفذّ رنتان" .. وتنبض مع دقات قلبي الذي يهطل مطرًا في كل مرة أسمعها تحيّةً لذلك الصدى الذي لم تستطع هذه السنوات الطويلة أن تجعله يختفي .. وفي كل مرّة أتعرّف فيها على نفسي وأسمو بأدائها الذي يغرقني في سكينةٍ لا حدّ لها بين أمواجٍ من الفرح.

لم تترك لونًا للجمال إلاّ وأنشدت له بنشوةٍ تطفو فوق الحسّ والحضور .. فخلع الورد معطفه وألبسها إيّاه.

لم تترك أمسًا من عمر الزمان إلاّ ولوّحت له بمنديلها المعطّر بالوعود التي تحلم ببناء عالمٍ أجمل .. "سترانا إذ نغنّي .. ونحيّي ونهنّي" ..

لقد عملت على تربيتنا على الإيمان بطريقةٍ مليئةٍ بالعواطف والمشاعر .. كانت ولا تزال بمثابة أمٍّ ثانيةٍ لي ولكل من كبر مع شريط "الطفل والبحر" و"نشيد المستقبل" و"نبع الحب"... ليتها تعلم مدى امتناننا لها .. ربما يجدر بنا رد الجميل .. وهو بأن نريها ثمار ما عملت لأجله .. لنريها الرجال والنساء الذين أنجبتهم شوارعها بكثيرٍ من الشغف .. لنريها أبنائها لتفخر بهم .. ولنأخذ على عواتقنا شيئًا ما ذات معنى .. وهو بأن لا نترك تلك الرسائل الإنسانية العميقة التي قامت بتمريرها إلينا تذهب هباءً بل لنمررها نحن أيضا إلى من نحب.

في ليلة عرس القمر تنساق معها كائنات الحب الصغيرة على طريق الحالمين المفروش بورد الأرض كلها .. حيث النجوم تترك لنا ما نتذكره .. "أرضي هنا وأنا .. وملاعبي الحلوة .. أمي هنا وأبي .. والأهل والإخوة" .. وسِعت هذه الأغنية أسود الليل وأزرق البحر .. إنها ترنيمة دافئة تنزل طيبًا على من يسمعها فتحرّر في داخله سربًا من الطيور انطلقت ترفرف نشوةً.

لِموجة الجمال في عينيها .. طفل له أن يلعب تحت ظلّ كواكبها فيدخل في مرآة روحه ليشرب من عذب أنغامها وينام .. وأنا كنت طفلا .. وفي لحظةٍ مسروقةٍ من الزمن نسيته .. لكنها أتت ولفّت وشاحًا حول عنقي .. فنبت العشب حولي وفُتحت أمامي الغابة وراء الغابة في امتدادٍ للأخضر .. وليس الأخضر لونًا أو شجرًا .. الأخضر لحن طفولتي.

تذكروا يا أصدقاء .. إنها لم تسعى في يوم من الأيام إلى فرض نفسها والقيام بحركاتٍ بهلوانية لجلب الأنظار .. لم تشأ أن تغيّر من أسلوبها استجابةً للأذواق المتقلّبة على مرّ السنوات .. فأغنياتها القديمة والجديدة لا تبتعد عن بعضها .. بالكاد هناك اختلاف بين "مالك الحزين" و"الشهيد" .. أو بين "عبور الطريق" و"تنمية الإبداع" .. بل لعلّ أكبر اختلاف بين جسد الأغنيتين هو في صوتها .. صوتها الذي تحوّل من صوت أميرة إلى صوت ملكة .. إنها ليست بحاجة إلى أن تكون حديث الصحف وتنشر صورها في كل مكان .. أو أن تتباهى بعدد ضخم من المعجبين على صفحات النت ..

كلا ..

الأمر أعمق من ذلك بكثير ..

التفتوا إليها .. ستسعد لتعانقكم ولتربّت على قلوبكم .. فهي ستعيد إليكم بلمسة سحريّة ذلك الطفل الذي ضاع أثناء شرود الزمن .. 

أيها الباحثون عن الجمال .. إنها ستشدّكم من فؤادكم شدّا رقيقا ناعما وتحملكم إلى أفقٍ مفتوح المدى لتجلسكم فوق غيومها الذهبيّة.

أنّى لنقاء النفوس أن يكون إسمًا لم يُكتب بخط يدها؟

ما أكثر ما أحببنا في صوتها .. يوم كانت تنشد على وقع النسيم .. "حمامتي حمامة جميلة .. تلعب والفراخ في الخميلة" .. نقلت لنا مزاجها المرهف الذي لم يعرف كيف يخبو .. ونبض الأمل فيها الذي لم يعرف كيف يتعب .. فهي نسمة الريح التي تحمل المحبة من قلبٍ إلى قلب .. ومن زمنٍ إلى زمن .. ومن وطنٍ إلى وطن .. وعلى إيقاعاتٍ خفيفةٍ راقصة .. تفوح بزغاريد السَّمَر .. صفّقت بمشاعرها قائلةً .. "هالزينة جمّعت خصال الحسن والطيبة فيها".

هي شمس الطفولة التي لطالما حملت في قلبها كيان الأطفال ونثرت من أجلهم الورد والأغنيات .. ومنحتهم الكثير من الاهتمام والحب في باقةٍ من العواطف التي يحتاجونها علّها تعوّضهم ما فقدوه في حرب الإنسان ضدّ أخيه الإنسان .. وقد بلغت من البساطة ما جعلها تسمو فوق تسمية (مطربة أطفال) .. لأنّ من يغنّون للأطفال كثيرون وبلا عدد .. لكنّها وحدها من أخرجت جناحيها وحلّقت .. فأناشيدها قريبة من القلب لدرجة أنها تمكّنت من محو تلك المسافة المعقّدة بين المطرب والجمهور .. وجعلتها كالمسافة بين الأم وأسرتها .. فبدا الأمر وكأنها تغنّي وهي جالسة معنا في صالون المنزل وسط لمّة عائلية.

أشرعتْ نوافذ السماء فرحاً كي نغنّيها وتغنّينا .. كي ندرك بأنها ستظلّ باقية على حبها .. فنفتح القلب لما سيأتي من أفياء مخيّلةٍ تعبق بالحياة وتغنّي .. "ونحن في بلادنا عصافير .. أشواقنا من نخلةٍ لنخلةٍ تطير" .. وما طارت أشواقنا إلاّ لتعانقها.

وللأيام لون القلوب بكل تفاصيلها حين تشعل الهدب دموعها التي تقطر من "يا ليت أمي هنا" .. فأغنية حنونة تصلح اليوم لأن تكون بيتًا.

لا أحد له أن يخفي التشابه بين أغنية بصوتها وبين رشفة حب .. أوَ ليس الحب هو ماء الحياة؟

وفي ازدحام هذا الزمن المختنق بالأوجاع يتسلل إلينا صوتها عبر غبار الكآبة خيوطا من الضوء اليانع .. فيصيب القلب برعشةٍ لذيذة ويعيد الألوان إلى الأحلام التي ذبلت أطرافها وصولا إلى الوجدان حيث لم يزل ينبض سرّ صغير إسمه الأمل .. لن يجرف سيل النسيان أحبّة استطاعوا لسببٍ ما أن يترسّخوا في النفس والذاكرة .. أولئك الذين يسكنون صدورنا ويجعلوننا نحيا حياةً رغيدة .. ويظلّ ماؤهم يجري فينا كل لحظة .. لا أخفي عنكم يا أصدقاء .. إنها لطالما جعلت القلب يسمع قبل الأذن .. فقد كان يكفي أن تغلق عينيها وتغني "يا ما أحلى أن نجتمع .. ونظل نعيش العمر معًا .." لتجتمع حولها عصافير التمنّي التي تتوق إلى صحوة الإحساس بعاطفة الخير النقيّة.

استطاعت أن تترك جمالاً في الهواء حتى بغياب صوتها .. ولما اشتدّت خشونة البرد واشتدّت معه حاجتي إلى ركنِ قصيِّ أستعيد فيه شهيّتي إلى الحياة .. لم يتطلّب الأمر أكثر من أنشودة "فراشتان" لأعود طفلا في الثامنة .. جيوبي ممتلئة بالأحلام الصغيرة وأنا ألعب فوق الأرجوحة التي كانت معلقة على شجرة اللوز الكبيرة في بيتنا القديم وأدندن بذلك اللحن .. تمنّيت لو أغلق عيوني علّني أقفل على تلك اللحظات. هي نفحة من نفحات الماضي تلك التي حملتني وحطّت بي على غصن طفولةٍ كانت هي الأجمل فيها .. كيف لا وبداخلها من العطاء ما يكفي عمرًا آخر؟

لِما يزيد عن أربعة عقود .. كان الحب هناك .. أتى برفقة كل كلمة وكل غنوة حتى يمدّها بما يكفي لتقطع مسيرتها المخلصة لمبادئ أوشكت أن تندثر من ضمائر كلّ الذين غرقوا في بذخ الحياة .. كان الحب هناك .. ممتلئًا بها .. لوهلةٍ خلت بأنني سمعت همسه وهو يتمنى أن يكون تاجًا فوق رأسها.

بريشةٍ من ريش الملائكة كنت أراها ترسم وتجدّد لنا ما يهرم من الصبا .. ترسم جسرًا يعبره التلاميذ العائدون من مدارسهم وهم يتقاذفون الأحلام السعيدة .. ترسم وسادةً محشوّة بالغيوم لطفلٍ يغفو على صوت والدته وهي تهدهد له وتغني "فنداه أتسمعني .. أترضى أن تساعدني .. ومثلك أنت تجعلني .. أجبني لا تقل عذرا" ..

أحبها لأنها شاعريّة كقبلة الندى على خدّ الصباح .. وحالمة مثلي بالركض على قوس قزح بروح الطفل السعيد .. ودافئة بالدفء الذي تختزنه جدران البيوت .. وحاضرة في القلب كالخفقان.

لها مع العراق عناق طويل وحب قديم .. وقد بادلها الحب ذاته والوفاء ذاته .. وبسط لها أجنحته الأسطوريّة حين غنّت "عن جنّةٍ يسمو بها النخيل .. رمزًا لنا لشعبنا الأصيل .. حدّثتني حدّثتني .. حدّثتني يا أبتي" .. حاملةً بهذه الأغنية رؤياها البعيدة لتسكن في داخلها المدينة التي آنسَت صوتها على الوداعة.

أيّها العراق المثقل بالورد والشهداء .. اقطف لها القمر واحمل من دموعك تعبها القديم بما يليق بلون الزهر في وجنتيها.

وفي حين كانوا يغنون بحثا عن الشهرة والنجومية .. جلستْ بعيدا عن كل تلك الضوضاء .. تتأمّل العالم وما فيه من فوضى بصمتٍ عميق .. فوق تلة جميلة غطّتها يد الربيع .. حيث كل شيء بخير .. وحيث تلعب الأرانب من حولها .. وتأكل العصافير من كفّ يدها .. وتنام صغار السناجب في حضنها .. هناك جلست تنفخ في الهواء فقاعاتها كما ينفخ الصغار فقاعات الصابون .. لتحملها النسمات بعيدًا وتوصلها إلى الأطفال في كل مكان .. كل فقاعة أغنية .. وكل أغنية فقاعة .. حتى إذا وصلت إليهم ورأوها قفزوا فرحًا وفرقعوها بأصابعهم الصغيرة .. وأنا كتبت هذا لأنني أحد الذين وصلتهم فقاعاتها.

صوتٌ عراقيّ حميم .. صوت إلهام أحمد .. تعرفه كل نسمة هواءٍ لها رائحة الفرح .. تجدون عبقه في كل مكان .. في حدود الأغنيات البعيدة ..

في وشوشة الصغار ..

في خبز الشهداء وقهوتهم ..

في أسماء الحب الأولى ..

في سلاسل البيلسان التي طوّقت بغداد ..

في أمواج البحر التي أنجبت مشاعرها ذات يوم ..

وعبثًا أحاول تذكّر فجر طفولتي دون أن يغمرني.

أتساءل ماذا سأخبرها إذا سقطت من السماء فرصة لأراها أمامي؟

ماذا يا ترى؟

ربما أدسّ وردةً بين خصلات شعرها وأقول لها :

املئي لي من الأحلام قارورةً صغيرة .. وقولي .. بل اعترفي ..

لماذا جعلتِنا نحبك كل هذا الحب؟


  • 3

   نشر في 10 ماي 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا