جبال الريف لم تعد تكتم دموعها !
نشر في 01 فبراير 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
هو شهر من الشتاء الريفي، لم أعشه هنا منذ أزيد من ثلاث سنوات...
لكن شيئا مختلفا قد انتابه، قد يكون تغير الزمكان هو السبب، لكنه في الواقع أحداث أخرى جعلت منه غريبا وسط وقائع عارية !
أشجار لوز حديقتنا لم تعد تزهر ورودا بيضاء،تلك التي وإن كانت جميلة إلا أننا لطالما غرنا من الوردية التي تزهر بين أغصان أشجار لوز جيراننا. أمي لم تكن تكل من شرح أن أزهار لوز حديقتنا بيضاء لأن ثمارها حلوة، على عكس تلك الوردية التي تعطي ثمارا مرة ! لكننا لم نكن لنقتنع حينها بأن المظاهر قد تخدع حتى في أشجار اللوز. اليوم صارت رمادية جدا، وأغصانها نحيفة جافة تملؤها تجاعيد السبعينيات من العمر، جذعها قصير وأوراقها تساقطت منذ زمن !
ماذا عن النخلتين اللتين غرسناهما بأناملنا الصغيرة ؟ بقيت بقعتاهما شاغرتان ولم تعد شجرة العنب تورد ظلا لتحميهما من أشعة شمس الظهيرة !
وماذا حل بالكرسي الذي يكتسي من جذع شجرة التين عرشا ؟ كنا قد ربطنا بين رصيف خلفية المنزل وبينه بضعة أحجار تفصل بين كل اثنتين منها مسافة قصيرة بقدر خطواتنا الصغيرة...
أما التين فلم يعد يبان هنا، ولا العنب عاد يسدي حباته التي تتمايل وكأنها تملك أعناقا مختالة. المكان صار غريبا جدا، وفارغا من تقاسيم الطفولة... مامن شيء غير أغصان الزيتون وحدها التي عادت لترسم الماضي !
وكأن الريف أصبح يذرف دموعه علنا ولم يعد يتحمل كتمانها... أولم تكن جباله تكذب لتخفي حزنها ؟! ألم تكن تصمت رغم ثمارها الذابلة، ولا تبدي شيئا من دموعها التي تذرفها في صمت ؟
لم تعد كذلك اليوم، فكل أشجار اللوز صارت تحني رؤوسها حزنا، وكأنها تلتمس عذرا من صاحبها "اعذرني فما عادت جذوري قادرة على التحمل أكثر !" وكأنها تتأسف لأنها لن تقدر على إعطاء ثمرات تعلق عليها لوحات خشبية وسط أسواق أبعد المدن ؛كتب عليها بخط عريض "لوز ريفي" فيتهافت المشترون لاقتناء أجود حباته.
ماذا عن أشجار الزيتون ؟ تلك لم تنعم بزخات مطرية تسد عطشها فماقدرت هي على سد عطش الفلاحين لزيتها!
وماذا عن حبات القمح والشعير ؟ "أغروم نيمندي" - خبز الشعير- سيصبح من الأطعمة التي تتوفر في منازل العائلات الميسورة الحال إن لم نقل الغنية فقط ! الفقر ينحر رقاب عائل الأسرة الصغيرة والكبيرة ،وبين أبناء من أب معتقل، وأم لابن معتقل، وزوجة لمريض سرطان ، وخال لشهيد قضية طمست أدلتها، وعم لشاب تحول جسده لرماد ، وأخت لذاك الذي قتل بالرصاص، وأخ لذلك الذي طحن وسط القمامات... القصص هنا متشابهة كثيرا ، والهموم مشتركة.
النساء يتشاركن نفس الأحاديث سواء كن على سفح كيمادو أو على سفح جبل سيدي بوخيار، يتهافتن لتقاسم آلامهن، ففلذات الكبد تحترق في صمت،والدموع تكتم لتذرف عند الفجر رفقة دعاء هامس يسأل فيه الفرج... الأمل واحد في بداية كل شروق ؛ فتطمح الأولى "لعل ابني يحاكم اليوم فأدري متى يخلى سبيله لأطلب عمرا مديدا إلى حينه" وتأمل الثانية "لعل العفو قد يشمل ابني في العيد الوطني المقبل"... أي آمال قد تتحقق وسط كل الوعود الكاذبة والجمل المتقنة الخطابة لسد الأفواه رغم ملئها بالكلمات ! أي الأحلام قد انكسرت وراء القضبان، وأي القلوب الصغيرة كسرت خارجها ! أبناؤهم يملكون جملة واحدة يرددونها بكل إيمانهم "أيا ربي إينو ذرقاد ياباحنو" ( ربي أطلق سراح أبتي).
لكن الآذان صماء ربما، أو بالأصح تريد أن تكون كذلك...عاصمة الريف اليوم صارت شاحبة جدا، والشفاه تنبسط بصعوبة لتطلق ابتسامة شبه عريضة، ففي مثل هذا الوقت من الشتاء قبل عام كان الطموح والأمل يملأ آلاف الوجوه المجتمعة في نفس الساحة -ساحة الشهداء- لتطلق الحناجر صوتا واحدا هو صوت أمل بمستقبل زاهر كزهور أشجار لوز حديقتنا... !
النهاية تنتهي هنا ،لكن نهاية الصمود في الريف المغربي لم يولد اسمها بعد !
-
ربيعة الفاسي"الكتابة نفس يبث الحياة في جسد كل من تلامس أنامله المداد"
التعليقات
أتمنى أن ينصلح حال الريف و حال جميع بلادنا .
بداية موفقة و في إنتظار كتاباتك القادمة .