بلسميات - ٣ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

بلسميات - ٣

مذكّرات رجل صار أباً أواخر العقد الرابع

  نشر في 23 يونيو 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

يأبى أن يجلس وحيداً لأكثر من دقيقة، وترهقنا مطالبته لنا بالاهتمام المتواصل به وحمله واللعب معه. لكنّا إذا نام تشوّقنا إليه، وانتظرنا لحظة استيقاظه بفارغ الصبر لنأنس به ونلهو معه. فما إن نسمع هديله حين يصحو، حتى نهبّ إليه لنلتقط جسده الغض من الفراش ونحتضنه، فهو بهجة البيت وسيّده، وهو الآمر الناهي فيه.

تجذب انتباهنا حركاته، تطرب أسماعنا أصواته، تأسر قلوبنا ابتساماته، تلهب مشاعرنا ضحكاته، يسعدنا تلبية حاجاته، وأسابقها إلى حمله، لأنّ نشوة التصاق جسده بي لا تعدلها نشوة. فعندها أسمع نبضات قلبه، وأشمّ عبق جسمه، وأستشعر اختلاجات أحاسيسه، وأرى ارتداد نظراته وأقرأ تقاسيم وجهه، وعندها فقط تختلط أنفاسنا ببعضها. ذاك باختصارٍ حالنا مع رضيعنا المدلّل حتى أصبح تناولي الإفطار أو العشاء مع أمه ضرباً من الترف، ما عدنا نستحقه!

وفي فرصةٍ نادرة أتاحها لنا لمّا غطّ في النوم بعد استحمامٍ ليلي، وما أقصر نوبات نومه، جلستُ وأمّه نفكّر: أيُعقل أنّ كلّ مَن يرزقان وليداً يطويان هواياتهما جانباً ويختصران أشغالهما ليتفرّغا لرعايته؟! أكان ذلك ديدن آبائنا وأجدادنا؟ كيف نجحوا في تربية ستة أو تسعة أولادٍ بينما يشغلنا كلّياً طفلٌ وحيد؟ أين الخلل؟ أهو في بلسمٍ أو في رعايتنا المفرطة له؟ هل لتقدم عمرينا علاقةٌ بذلك إذ عوّدناه على الدلع؟ أو هو تغيّر نمط الحياة حتى بات إغداق الحبّ والرعاية والنّفقة لزاماً علينا، لأنّه كفيل بتأليف قلبه وتهذيب خُلقه وزيادة ثقته بنفسه، نظراً لاتّزانه العاطفي وغناه الفكري؟!

لطالما استغربت خمول أصدقائي حين كنت من قبل أسألهم كيف قضوا عطلتهم الأسبوعية، فيجيبون بأنّهم أمضوها في البيت مع أطفالهم! فأحدّث نفسي: يالها من حياةٍ سخيفة تلك التي يفرضونها على أنفسهم وعلى أولادهم، بدل أن يخرجوا معهم ليستمتعوا جميعاً وليتعلّموا منهم ويعلّموهم. أو بدل القيام بنشاطات تساهم في تحسين حياتهم. أو بدل ممارستهم لرياضاتٍ فكريّة أو جسميّة تبهجهم وتنمّيهم. أيّ هدف يناله الوالدان حين يصبح جُلّ اهتمامهما إطعام الأطفال وكسوتهم وتلبية حاجاتهم؟ وأي عظيمٍ يحقّقانه حين تصبح غاية متعتهما هي الخروج مع أطفالهم إلى حديقةٍ مجاورة؟

وكنت أنظر إلى حالي فأرى كيف تتحوّل حياتي إلى جحيمٍ حين ينطوي شهرٌ لا أخوض فيه مغامرة السفر إلى مكان ما، أو حين يمرّ أسبوعٌ دون أن أكتب مقالةً لائقة، أو حين يمضي يومٌ دون أن أقرأ شيئاً مثيراً أو أشاهد محاضرةً أتعلّم منها. أيُعقل أن يرغمني بلسم اليومَ على التخلّى عن ذلك كلّه؟ أيّعقل أن تتخلّى زوجتي عن حلم إتمام تعليمها الجامعي بهذه السهولة، وهي بالكاد بدأته إثر تحفيزي الطويل لها؟ أكره الحياة إذا خلت من الإثارة والتعلّم والأحلام. أرفض حياة الخاملين.

قرأت عن المصاعب التي تواجه الوالدين في التربية السليمة وأنها تبدأ من سنّ الرضاعة، لكنّي لم أدرك التحدّيات التي تضعها تعقيداتها فتعيق قدرتهما على مواصلة العطاء. قرأت عن الحاجة الماسّة لتنظيم الأوقات وتوزيع المهام بينهما، لكنّ لم أعرف أنّ الرضيع سيسرق منهما جلّ أوقاتهما وهما يبتسمان. قرأت أن الرجل لن ينتظر من زوجته الكثير مما كان يلقاه من تجمّلٍ وتودّد، لكن لم يقلّ لي أحدٌ أنه سيعجز عن العثور على وقت يجلسان فيه معاً أو يتنزّهان. قرأت أن البيت مع الأولاد لن يحافظ على رونقه ولمعانه المعهودين، لكنّ لم أتوقع للفوضى أن تتراكم في شتى أرجاء بيتي!

أحتاج مقدرةً أحافظ بها على مستوى رعايتي له من غير أن يرغمني على التخلّي عن هواياتي أو الإقلال من ساعات عملي. أحتاج معجزةً تمنحني ربع يومٍ لأحسن مصاحبة صغيري ورعايته دون أن أُهمل اهتماماتي ومهامّي. أحتاج أن أنفكّ من أسر هذا الرّضيع لي من غير أن يؤثر ذلك عليه ولا على مستوى رعايتي المادية والمعنوية له.

أغيثوني.


  • 12

  • أقباس فخري
    لا أكتب للناس بل أكتب لذاتي. أحاول العثور على نفسي حين أكتب. لعلّي ألملم شتاتها المبعثرة فأجمعها، أو عساني أعيد تكويني.
   نشر في 23 يونيو 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

بلسمٌ واحد وفعل بكم هكذا
1
أقباس فخري
D: تخيلي؟
اولا .حفظ الله لك ولزوجتك ابنكما الجميل وبارك فيه ..ثانيا . ايها الاب الحنون.دائما ما يكون الطفل الاول للوالدين محل اهتمامهم وحرصهما الشديدين.( الطفل في مراحله الاولي حقل تجارب للوالدين للاستكشاف عالم وعادات هذا الطفل ويكتسب الوالدين يوم بعد يوم خبرة في طرق وكيفية تربيته مع ما يستجد من تغير في اطوار نشأته...) فتربية اي طفل صغير لاسيما أنه الطفل الاول قد يؤثر ذلك على اشياء كثيرة من عادات الوالدين على كافة الاصعدة ( من كتابة.. وقراءة وزيارات اقارب..وخلافه ) فهو يشغل حيز كبير من بؤرة التفكير و الاهتمام والخوف من عدم الوفاء بكافة جوانب تربيته ( ( المعنوية والمادية والعاطفية )
اخي الفاضل أقباس... لا تخشي شى . وحاول ان توازن بين الامور .. ولا يندبك شعور التقصير في تربيته لعدم الجلوس معه لفترات طويلة..
واتفق كليا فيما أبدعت به وذكرته الاخت الفاضلة فوزية من رأي.. و نقلها خبراتها الشخصية فهي تملك مقومات الام الحكيمة حفظها الله وبارك لها ولنا ولك في اولادنا جميعا
دمت ابا حنونا طيبا ... اخي أقباس
3
أقباس فخري
بارك الله فيك أخي الطيب إيراهيم. قرأت تعقيبك باهتمام وسرّني لأنه ادخل الطمأنينة إلى قلبي. سأحاول أن أكون ذكيا ومنظماً جداً وأكثر من أي وقت مضى لأعطي بلسم حقّه من غير التقصير في اهتماماتي ونشاطاتي. غمرني لطفك وطيب مشاعرك. بوركت صديقي.
ابراهيم محروس
اطمئن اخي الغالي.. تحياتي لك ولاسرتك الغالية.. وبلسم الجميل ( اخوك ابو عمر )
Salsabil Djaou منذ 6 سنة
حفظه الله لكما وأسعدكما به، رضيع بالمنزل يخلق فوضى تامة ، ومع مرور الأشهر ستستطيعان التعود على الاهتمام به بالموازاة مع أعمالكم و هواياتكم ،يبقى تشجيع الزوج و مساعدته لزوجته أروع هدية قد تحصل عليها كأم ، ما أجمل إحساس الأبوة ،عبرت عنه بكلمات رائعة ، ارجو لك و لأسرتك الصغيرة كل الخير والهناء.
4
أقباس فخري
بالفعل أختي سلسبيل هذا ما حصل، وربما لأنني ابتعدت عنه ما يقرب من خمسة شهور شعرت بالصدمة لكثرة الرعاية التي يتطلبها والفوضى التي يخلقها. بوركتِ لاهتمامك وتكرمك بالنصيحة.
آلاء بوبلي منذ 6 سنة
ادام الله لك زوجتك و ولدك ، يخشى الوالدين احيانا من عدم تقديم الرعاية الجيدة لطفلهما او عدم قضاء الوقت الكافي معه و قضاء الوقت مع الطفل يعني له الحب و الاطفال لا يطلبون الحب فقط ابتسامة بريئة تدفعنا نحن لتقديم المزيد منه ، في المقابل هناك اعمال و مهام اخرى يجب القيام بها ، أيضا رأيت العديد من الأمهات يتركون الجامعة من أجل أطفالهم فالدراسة تأخذ وقت من حياة الام لذلك تقرر الاعتناء بأسرتها ، للأسف سيدي ليس لدي جواب على إغاثتك .
4
أقباس فخري
شكرا لك أختي الصغيرة. أودّ أم أعلمك أنّي لا أقيم مع بلسم إلا أسابيع ثم أسافر عنه بحكم العمل. وهذا ما يجعلني غير قادر على التوازن في عطائي معه. لذا أخشى أن تفسده طريقتي في التربية.
آلاء بوبلي
العفو اخي ، حبك الشديد له واهتمامك هذا لا اعتقد بأنك قد تفسده بطريقة التربية و سيكون فخور بوالده ، اتمنى أن لا تفارق البسمة وجهه الجميل و أن يكون من الصالحين .

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا