كان قد مضى على الفراق بضع سنين، وكأنها بضع ساعات. تذكرت أنه قال لها يوما في لحظة أنس: لقد حققت كل شيء كنت أصبو إليه في هذه الدنيا ما عدا أمر واحد. سألته ما هو، أجابها واثقا: قلبك الموصد. ردت: لقلبي مفاتيح أسلمك إياها إن وعدتني أنه سيبقى سليما بين يديك. وعدها...لكنها لم تكن تعلم أن قلبها أثقل من أن تحمله يداه...وسلمته المفاتيح. دخل وترك الباب مواربا. تفاجأ بالفوضى العارمة، كان يعرفها جيدا ويعلم أنها إنسانة منظمة في كل شيء، ليكتشف أنه سيلزمه الكثير من الوقت والجهد ليعيد المكان لصيغته الأولى. توقف للحظة ودارت به الأفكار، ثم استدار نحو الباب ووجده يدعوه للخروج دون مزيد من "الشوشرة". قلبها ليس بحاجة لمن ينفض الغبار عنه، ليس بحاجة لتفكير بل لأن يحيا من جديد. كان يود المساعدة لكن الصدمة كانت أقوى من عزيمته...
عاد إليها بمفاتيحها متأسفا يصف قسوة المشهد: لم أر يوما قلبا مثل قلبك، أبيض لكن مثقل. مثقل بالذكريات والخيبات والأوهام، لا أستطيع أن أعيش وسط كل هذا، يلزمني هدوء وحنان وحياة هانئة فقط...ردت: حقك...أما وعدك لي...فسأضيفه لقائمتي وأمضي، ووعدك أنت بالذات سأحتفظ له بمكان خاص وسط كل العبث بداخلي.
شرعت تلملم ما تبقى منها بعد نهاية القصة الجميلة التي لم تدرك لا كيف ولا متى انتهت، مع ذلك الرجل الغريب. كانت تود أن تبين للجميع أنها بخير، أنها قوية ولا تهزم. لم تكن بخير، كانت تكابر نفسها ولكن كان لديها يقين أن ذكراه ستخضع يوما ما لبطش الزمن فتنساه. ومن غير الذاكرة يحرس النسيان. تمنت لو أنها لم تتعرف عليه، تمنت لو كان فقط ضربا من خيالها، أي سذاجة حلت بها لتصدق أن الوردة تستطيع العيش خارج البستان؟ لم تكن تنادي فيه أمرا بل أمورا، كانت تنادي الطفولة والعنفوان، الحاضر والماضي، الشجاعة والهروب، كانت تنادي فيه كل المتناقضات، تنادي نفسها...وأضحت آخر قبلة بمذاق الخذلان، تماما مثل الروايات التي يستسلم فيها الأبطال.
لم يكن من طبعها الاستسلام، لا لحزن ولا حتى لفرح. كما هو الحال بالنسبة للكثيرين، يخافون الحزن لكنهم يهابون أكثر الفرح. فمع كل ما عاشوه أصبحوا يفرحون بقدر معين، خشية أن تأتيهم ضريبة الفرح من حيث لا يحتسبون فيضطرون لتأديتها ولا موارد لهم. هنالك من يضحكون ويندمون على ضحكم، وكأنهم ارتكبوا خطئا وينتظرون العقاب. "الله يمرئ هذا الضحك على خير"، تجسد كل ما عاشوه من أهوال حتى أصبحوا يخشون لحظة يضحكون فيها من القلب.
لم تستسلم أمام اشتياقها رغم أن الشوق بلغ مداه. ذلك أن قرارها بالرحيل كان نهائيا هذه المرة. لم تكن من الحقوق المكتسبة كما كان يعتقد. رحلت ولم تكن تعلم أن الوقت سينتصر له، وأن النسيان سيخذلها لأول مرة. فطنت لأن كل ما مضى لم يكن مجرد تعلق.