مما تتناقله الأخبار ، وألسن الأحبار تلك القصة التي تصف لنا حادثة عيسى ابن مريم مع الحواريين ، عندما خرجوا من البحر متجهين إلى صحراء قاحلة . فبينما كانوا يشقّون طريقهم باتجاه الهلكة ، وانعدام مقومات الحياة ، وكانت تعتري وجهوهم مشقّة السفر ، وإعياء الطريق ، والحيرة التي تمتلىء بها نفوسهم ، إذ قال لهم نبيهم بصوت الواثق بربه : كلوا ، وأطعموا الفقراء من طعامكم . فقالوا بنبرات تلفها نظرات الاستنكار : ومن اين لنا بالطعام ونحن لا نجد كفاف بطوننا ؟ ثم سكت عيسى عليه السلام هنيهة ، وأمرهم بالجلوس في مجموعات متفرقة على أرض تحظى بالعشب والحياة ، وكان يمسك بيده سمكتين ومعه فتات خبز من سالف طعام لهم . ثم طفقوا يبحثون سراعاً عن تلك البقعة التي انبتت الكلأ والعشب في تلك المفازة القاحلة. وبينما هم على تلك الحالة من التعب والنصب وعضة الجوع التي تنهش من بطونهم الخاوية ، إذ اخرج الله لهم من باطن الأرض عشباً يشي لهم بالحياة ، ويوحي إليهم بنعم الله الوافرة .
فمن أمعن النظر ، وادام الفكر سيجد موقف عيسى عليه السلام الذي لم يسعى لإخراجهم من تلك الصحراء ، ولم يحاول إنقاذهم من هاجرة الشمس التي يصطلون بوهج حرها ، وقد يبست اكبادهم من الظمأ ، واضنتهم مشقة السفر ، ولكن عيسى كلمة الله -الملهم بالحكمة من الله- أمرهم أن يسعوا في مناكب الأرض حتى يحكم الله بحكمهم ، وهو سبحانه حكيماً ومطلع على اسرار الضمير . حتى اذا ما جاء امر الله طعموا ، وشربوا ، وجادوا للفقراء ، واستيقنت نفوسهم بصادق الوعد ، وأن الله لا يترك عباده هملاً لأنه هو ولي نعمتهم .
فكلنا ذلك الرجل الذي تمضي قدمه في صحراء الحياة ، ويبلغ منه التعب مبلغه الذي لا يطاق ، وتتناهشه سباع الضواري بناب ومخلاب ، وتدمي قلبه نباح الكلاب ولكن في وسط تلك التحديات ، والمواقف الحرجة لاتزال يد الله تحيطنا بكنفها ، وتتولى أمرنا بحكمتها ، وتجود علينا بملاحظتها وعنايتها . عندها فقط نشعر بقوتنا من بعد الضعف ، وتتنزل علينا الطمأنينة لكي نمضي بخطى ثابتة لا تتزعزع أبداً ، ما دامت اروحنا رهينة في اجسادنا .
-
المسافريتألم الإنسان بالوهم اكثر مما يتألم بالحقيقة .