إن الإصابات التي مُنيت بها أُمّتي في وقت مبكر من تاريخها تراكمت آثارها حتي أصبحت أزمات أدت إلي شلل فعالية الإنسان المسلم واستدرجته إلي درجات الحيرة والاضطراب والقلق. إن أُمّتي وقد تكالبت عليها الأمم وتداعت عليها الكوارث، لهي أحوج ما تكون اليوم إلي صناعة الإنسان المسلم الفعال، فالمسلم ما زال يحتفظ بعقيدته ولكن عقيدته تجردت من فعاليتها كما يقول مالك بن نبي : "المسلم لم يتخلّ عن عقيدته، ولكن عقيدته تجرت من فعاليتها، فليس المهم أن نُعلّم المسلم عقيدة يملكها، بل المهم أن نرُد إلي تلك العقيدة فاعليتها، قوة العقيدة هي التي جعلت من أعراب أجلاف سادة للعالم وقادةً له". فمن لم تُحلّق به حصيرة المسجد البالية لن يطير به بُساط السندباد.
شهدت أُمّتي ثلاثية الأزمات وهي :
1- حالة من الاستسلام والهروب والضعف أصابتها بالوهن، فلم يعد لها الدور الريادي وأصبحت في ذيل القافلة.
2- التخلف عن حمل الرسالة وفي كافة الميادين: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية.
3- الوقوع في قبضة الاستبداد فمزق وحدتها ونهب ثرواتها وجعل منها سوقاً إستهلاكية كما سيطرت عليها مجموعة من الأنظمة عطّلت أداءها وإبداعها، إنها أعراض إنهيار شامل.
والأزمة عبارة عن مثير، فتخلف إفريقيا مثلاً يعود إلي عدم وجود مثير وتحديات تدفع للعمل، واليابانيون عندما خافوا من الجوع وُلد في داخلهم إصرار علي عمل منقطع النظير، فالأزمات والكوارث هي المنبه الوحيد الصالح لإيقاظنا، وحادثة شرنوبيل في روسيا التي تُعد أكبر كارثة نووية شهدها العالم أكبر مثال علي ذلك. حيث كان ما يقرب من 200 موظف يعملون في مفاعل الطاقة النووي بينما كان يتم إجراء عملية محاكاة وتجربة في الوحدة الرابعة التي وقع فيها الانفجار. كما ساهم عامل بنية المفاعل في الانفجار حيث أن التحكم في العملية النووية كان يتم بأعمدة من الجرافيت. في حين أن رئيس الفريق انتبه إلى الخطر وحاول إغلاق المفاعل مما يجعل أعمدة الجرافيت تنزل في قلب المفاعل وتبطئ من سرعة التفاعل النووي وتخفض الحرارة، إلا أن هذه الطريقة جعلت الحرارة تزداد لوهلة قبل أن تشرع في الانخفاض. وبما أن المولد كان غير مستقر والدورة الحرارية مشوشة من آثار الاختبار، كان هذا هو العامل الذي أدى إلى اعوجاج أعمدة الجرافيت وعدم إمكانية إسقاطها في قلب المفاعل وجعل الحرارة ترتفع بشكل كبير وتشعل بعض الغازات المتسربة وتتسبب في الانفجار. نتج الخلل عن تراكم أخطاء بشرية وقلة خبرة مهندسين شبان قاموا بالمنوابة تلك الليلة. وأدي ذلك إلى حدوث اضطراب في إمدادات الطاقة في جمهورية أوكرانيا السوفيتية، كما أدى إلى إغلاق المصانع وتعطل المزارع وبلغت الخسائر المادية ماقيمته أكثر من ثلاثة مليارات دولار أمريكي. وقد لقى 36 شخصا مصرعهم وأصيب أكثر من 2000 شخص. وعقب الانفجار أعلنت السلطات في أوكرانيا أن منطقة تشرنوبل "منطقة منكوبة" وتم إجلاء أكثر من 100 ألف شخص من المناطق المحيطة بالمفاعل. وبعد حدوث الانفجار بدأت عمليات دفن وتغليف المفاعل بالخرسانة المسلحة لمنع تسرب الإشعاع الناجم عنه والذي أدى إلى وفاة عدد كبير في السنوات اللاحقة متأثرين بالإشعاع وخاصة أمراض سرطان الغدة الدرقية. هذه الحادثة فتحت عيون الناس علي المخاطر المحتملة لاستخدام الطاقة النووية أكثر بكثير مما فعلته ألوف التحذيرات من علماء البيئة والأطباء وغيرهم.
وتوجد في أُمّتي الإسلامية الآن حالة من الاختناق تكمن في وجود نوع من العلماء ذوي سطحية معرفية هشة، يُفتُون للناس فتاوي عبارة عن ردة فعل، دون النظر إلي الاقتباسات والتحليلات والنظرة المتكاملة، إنما ردود أفعال قاصرة، فأضروا وأخطؤوا. يقول محمد عبدالله السمان : أراد مني أحد الكتّاب أن أقدم للكتاب المعنون بـ "الوضوء" الذي يقع في 350 صفحة، ولك أن تتصور حجم الكتاب، والوضوء ذُكر في سورة المائدة في أقل من ربع آية أو في سبع عشرة كلمة (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلي المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلي الكعبين) والأحاديث التي وردت في الوضوء لا تتجاوز بضعة عشر حديثاً. وهذا يذكّرني بشيخ أمّي زار قريتنا بالصعيد، والتف سكان القرية حوله، ليستمعوا إليه، وعندما قال : قال الإمام علي رضي الله عنه : لو أردت تفسير النقطة التي تحت الباء من بسم الله الرحمن الرحيم لجاء تفسير هذه النقطة حمل مائة بعير، وهنا هتف الجلوس : الله .. فتح الله عليك.
هل تعلم أن عدد براءات الاختراع التي سُجلت في عام 2001 في الدول العربية مجتمعة لا يكاد يتجاوز 70 براءة اختراع، في حين أن عدد براءات الاختراع التي سُجلت في السنة نفسها في إسرائيل 1031 براءة اختراع! ! وهل تعلم أن ألفية ابن مالك قد شُرحت بما يزيد عن 120 شرحاً! ! وقد أفرد الترمذي "شمائل المصطفي صلي الله عليه وسلم" في كتاب فجاء بعده أكثر من 13 مؤلفاً اشتغلوا بشرحه! ! هذا ليس تقليلاً من شأن الكتب الإسلامية ، لكن أين الإضافات الجديدة؟ أغلب الإنتاج الفكري اهتم بالبحث في القضايا الفرعية، فهناك مئات الكتب التي تدور حول صيانة المرأة وهذا مطلوب، ولكن أين الكتب التي تتحدث عن دور المرأة في الحياة؟ وغير هذا الكثير الذي نتج من خلاله عقلية إسلامية مشوهة غير قادرة علي استيعاب الواقع.
ومن أزماتنا التي نُعاني منها أيضاً "متلازمة الآخر". إن أساس المشكلة لا ينبثق من وجود الآخر، فالآخر موجود. والناس في الغالب يريدون أن يعيشوا في المثاليات الزائفة التي تُقعدهم عن العمل وتبعدهم عن تحسس مشكلاتهم وتشعرهم أن منطلق مشاكلهم من الآخرين، فهؤلاء جماعة قالو لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : إنك لا تسير فينا سيرة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ فقال : نعم الشيخان كانا أميرين علي أمثالي وأنا أمير علي أمثالكم!. هذا غيض من فيض أزمات كثيرة نعانيها وتم ذكر بعضها علي سبيل الاعتبار والشعور بمرارة ما نعانيه، فالمسلم أصبح اليوم يعيش فوق أرض ما يحسن صناعتها، وتحت سماء ما يرمق آفاقها، وفي كون ما تعنيه أسراره ولا تبهره أنواره.
أمّتي في حاجة إلي إنسانها المسلم الذي ينتفض من أجلها ويقرر حمل رسالتها علي عاتقه. يقول مصطفي صادق الرافعي : لو أنني سُئلت أن أُجمل فلسفة الدين الإسلامي كلها في لفظين، لقلت : إنها : ثبات الأخلاق.
• رسالتنا شاملة، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدي ورحمة وبُشري للمسلمين) ومصداقاً لمقولة الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله.
• رسالتنا فعّالة، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : من رأي منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام إليه رجل من المسلمين وقال : لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا. المجتمع حينذاك كان متجانساً ومهيأً للمشاركة والتفاعل في علاج القضايا الحساسة.
• رسالتنا تقبل الآخر، وتعتبر التفرقة العنصرية من بقايا الجاهلية فقد قال صلي الله عليه وسلم معاتباً أبا ذر عندما عيّر بلالاً بأمه السوداء فقال : إنك امرؤ فيك جاهلية. رسالتنا تأمر بالمناظرة مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وتنهي عن سبْ عقائد المخالفين لديننا، وتنهي عن أذيتهم فقال صلي الله عليه وسلم : من آذي ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة، ومن خاصمته خصمته.
• رسالتنا تكريم للإنسان، (ولقد كرمنا بني آدم) من حق كل إنسان أن يحيا حياة كريمة مهما كان جنسه أو هيئته أو ديانته، طالما أن الله أوجده في هذه الحياة أصبح له الحق في أن يحيا بعزة وكرامة، إذن من نحن لنسلب حق منحه الله؟! فهذا صلي الله عليه وسلم تمر عليه جنازة ميت وهو جالس فقام لها واقفاً، فقيل له : إنها جنازة يهودي، فقال : أليست نفساً؟ ونحن الآن نري العنف يتفجر في كل مكان، ففي القرن العشرين فقط قامت أكثر من 130 حرباً وقُتل فيها أكثر من 120.000.000 إنسان! ! والإنجاز الإسلامي الضخم في زمن النبيّ صلي الله عليه وسلم تمثل في تحرير مساحات واسعة من الأرض، ذلك الإنجاز لم يخسر فيه المسلمون سوي 259 شخصاً وكانت خسائر المشركين نحواً من 756 شخصاً فقط! ! وذلك لأن رسالتنا تدعو إلي الإنسانية والرحمة والكلمة الطيبة ويري أن استخدام القوة هو آخر الحلول.
يقول د. عبدالكريم بكار : "لا يُكتب التاريخ ولا يعيش الناس سعداء من خلال المزيد من الأخذ، وإنما من خلال المزيد من البذل والعطاء". عندما تصنع لنفسك عالماً يمكنك العيش فيه، فإنك تصنع للآخرين نفس هذا العالم، والمتعة الوحيدة في العالم هي متعة البدء. فابدأ وحاول لأنك لا تخسر حقاً إلا إذا توقفت عن المحاولة، والإنسان لم يتقدم عبر تاريخه الطويل إلا من خلال الأزمات. والأزمة حين تستفحل ويشعر المرء بضعفه وانقطاع حيلته يتعلق قلبه بالله وهذا التعلق يمنحه رجاء جديداً بتجاوز المحنة ويمنحه طاقة لمواجهتها. فيا ربّي!! أخرج من أمّتي من يساهمون في نهضتها ويشاركون في نشر الإنسانية للعالم أجمع.