عطر العود - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عطر العود

نفحة من أيام جدّتي... ذكريات كانت واقعا يوما

  نشر في 12 مارس 2017 .

اجتمعت الأسرة المكونة من الأب والأم وطفلتين صغيرتين هما نور وزينب على مائدة العشاء مع الجدة مريم. تألّق طبق فطائر السبانخ برائحته الرائعة وأخذ يثير شهية نور التي تعلم بأن جدّتها أعدّت هذا الطبق خصّيصا لها. وفي وسط اندفاع نور لإنهاء الطبق, أوقعته أرضا فتهشّم إلى قطع صغيرة. شعر الوالد بالغضب فهو يعرف أن هذا الطبق المنقوش بالورود الذهبية غالٍ على قلب والدته لأنّها ورثته من أمها, وكانت تحب تقديم الفطائر فيه. رفع يده ليضرب من سبّبت له هذا الحرج, وقبل أن تلامس يده جسدها الصغير ركضتْ بفزع نحو الجدة ودفنتْ رأسها في صدرها باكية, فغضبت الجدة من ابنها ولعنت الطبق الذي أنزل دموع حفيدتها الغالية.

بعد مرور ثلاثة وعشرون عاما على هذه الذكرى ورحيل جدتي عن الدنيا, فما زلت أذكر هذه الحادثة بتفاصيلها كلما شممتُ رائحة عطر العود, فعندما احتضنتها خائفة من عقاب أبي, شعرتُ بنوع من الاسترخاء والسكينة لجمال العطر المنبعث من صدرها الحنون, وتمنيت لو بقيتُ في حضنها للأبد أسبح في عوالم هذا العطر السحري الدافيء. وبسبب سذاجة الطفولة فقد اعتقدتُ دائما أن جدتي تُصدر هذا العطر من جسمها فصدّقني أصدقائي بالصف الأول عندما حدّثتهم عن هذا السر وبدؤوا بشمّ جداتهم. وعندما بلغت الخامسة عشرة, أهدتني جدتي زجاجة عطر العود خاصتها وأخبرتني أنّ بينها وبين هذا العطر حبّ من نوع آخر لكنها تحبّني أكثر منه.

بيت جدتي كان ملتقى الأحباب في كل خميس, فهناك أبناء جيرانهم الذين يقاربون عمري. وأحيانا يأتي عمي الذي كان يسكن في مدينة بعيدة فألتقي بأبناء عمي ونقضي كلنا أوقاتا طيبة في اللعب, وقد كنت ألمح خيال جدتي من وراء الشباك يطمئن علينا بين الحين والآخر. وبعد الغداء كانت تكرمنا ببعض النقود فنركض إلى الدكان لنشتري ما يسوّس أسناننا ويلوّن لساننا بأزهى الألوان الصناعية. بيت جدتي كان يعجّ دوما بمختلف الروائح كرائحة النعناع الذي تزرعه في حديقتها الصغيرة, ورائحة القرفة والهيل التي تنبعث من مطبخها المرتب. أما غرف البيت فكانت مملوءة بأعواد البخور الهندي -الذي تؤمن جدتي تماما بمفعوله القوي ضد الحسد-, كانت تثبّته في فتحة الباب التي يدخل فيها القفل وقد وضعت أسفل منه سلة مهملات صغيرة حتى لا ينزل رماد البخور على سجادها الغالي فيحرقه. ولم نكن وحدنا نحن الأحفاد من يجد الملاذ والحنان الكامل في بيتها, بل نافستنا في ذلك قطط الحي التي كانت تتجمع عند باب بيتها لتأكل ماوضعته لهم من بقايا السمك والدجاج.

في ساعات الصفو التي يتمنى فيها الإنسان أشياء غريبة أو مستحيلة, أجلس على الكرسي الهزاز –وهو مع عطر العود كل ما أمتلكه من بيت جدتي الذي لم يعد موجودا-. أُغمض عينيّ وأفكر في آلة الزمن التي أتمنى لو لم تكن مجرد أمنية بشرية قديمة. أتخيل فيما لو تم إيجادها يوما واستطعت اقتنائها فسيكون أول شيء أرجع إليه هو بيت جدتي بلا ريب! فداخل بيتها القديم أتخلص من هموم الدنيا وأرتاح قليلا من سباق الحياة المُضنك.

أفتح عيني فأفيق من هذا الخيال, أتجه إلى غرفتي وأتعطّر ببعض قطرات من عطر العود الذي أهدته لي, فأشعر أنّ الدنيا مازالت جميلة.


  • 4

   نشر في 12 مارس 2017 .

التعليقات

Salsabil Djaou منذ 6 سنة
قصة جميلة جدا ونحن ايضا اشتقنا لجدتك وعطرها ،رحمها الله ورحم اجدادنا ،في العالم المجنون الذي نعيش تفاصيله يوميا نهرب الى زمن النقاء عبر بوابة الكلمات ،دامت كلماتك سيدتي.
1
Salsabil Djaou
ترى اين غبت ؟المنصة تشتاق الى كلماتك.
عمرو يسري منذ 7 سنة
رحم الله جدتك و جميع جداتنا ...
0
نور الكنج
اللهم آمين ☺

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا