حين بدأت تتلاشى ذرات الضوء، ولفت تجاعيد الغروب وجه النهار، وأخذت الشمس تكفكف هالاتها البلورية، تسارع نبض الحياة إلى جسدها الممشوق، وتنفس صباحها على وقع مساء صاخب يعد بالكثير، استجمعت أنفاسها الحرى ونفثتها بقرف على وجه مرآتها المهشمة، وبحركة خفيفة مررت طرف ثوبها عليها فإذا وجهها الكالح يرمقها بنظرة عابسة، تطايرت لها شظايا غضبها، فهرعت دون تردد إلى كيس المساحيق، في محاولة لإرضائه وإرضاء غرورها بل لإرضاء نظرات العابرين والعابثين، هكذا بدت .. ثم خرجت.
كانت رحلتها تيها مسجى ببريق لامع من المساحيق التي دججت بها ملامحها، حتى لكأنها عروس تزف وحيدة إلى رجل أحلامها، كل خيباتها وآلامها وأحلامها الموؤدة كانت مخبأة بإتقان خلف ستارة ابتسامتها المصطنعة في وجه كل من يمر بها، لسان حالها أنا السعيدة من غير سعادة، أنا الباسمة وفي قلبي حزن معتق لا تدانيه آلام الكون مجتمعة.
تفرست في وجهها فبدا لي ذلك الألم البازغ من بؤبؤ عينيها، أدركت أن خلف هذا الطلاء المتين قبوا مظلما عابقا بالأنين والألم، وأن سدا هشا يوشك أن يتداعى فينهمر سيل جارف من الدموع الحارة، عرفت حينها مدى خبث المظاهر وكذبها وخيانتها، مدى هذه القدرة العجيبة التي يملكها الإنسان على التعايش مع الألم والعذابات، بل التفنن في إخفائها ومواراتها داخل ذاته، كأنه قدر أنيق يغلي على نار هادئة.
لوهلة ظننتها من بنات الليل عاشقات الظلام، بائعات اللذة الفاجرة، وما أكثرهن في بلدة موبوءة لا تدب فيها الحياة إلا ليلا، حين تخرج شياطين الإنس والجان لتعربد بوقاحة في كل شبر بائس من حاراتها وحاناتها، لا شيء يعلو كعبا في جوها المحموم سوى صيحات السكارى وضحكات فاجرة تحملها الريح يمنة ويسرة، فلا تدع منزلا ولا مسجدا ولا خلوة ولا نافذة إلا ونفذت إليها وتسللت لتقض مضاجع سكينتها وتسرق منها هيبتها وهدوؤها ووقارها .. استبد بي فضول لم أعهده في نفسي الأمارة بالسوء، فعزمت دون تردد على تتبع خطاها خلسة دون أن تشعر بي، شيء ما يدفعني دفعا لاكتشاف ذلك السر القابع وراء تلك المساحيق الكاذبة، أخيرا ها هي تتثاقل وتقدم رجلا وتؤخر أخرى، وتنضح وجنتاها بحرج هائل، تقف مكتوفة حاسرة الرأس أمام باب الحانة، وفجأة ينبري من الباب رجل خمسيني اشتعل رأسه ببعض الشيب، يجرها من ذراعها بقوة إلى الداخل صارخا : ألن تكفي عن هذه العادة السيئة؟! لقد سئمت ترددك وخجلك الزائد هذا .. ألا تعرفين أن العمل أيضا عبادة، وأن جمع الأموال الطائلة لا يكون إلا من هذا الطريق السهل الميسور، ثم يردف باسقا في الهواء : عليها اللعنة تلك المنافقة أمك، أساءت تربيتكم ثم رحلت عني وتركتكم لي، وجه البؤس والفقر تريدني أن أبقى فقيرا عالة على الناس، لعلها الآن تعض أنامل الغيظ وتتحسر على فعلها، أشفق عليها من جهلها، إن الشرف كل الشرف في جمع المال والثراء ..
سكب هذا الحوار في نفسي جرعات هائلة من الجرأة والفضول، دفعاني لدخول الحانة لأول مرة في حياتي، غالبت قرفي، وأصررت على معرفة المزيد، اتخذت لي مكانا قصيا لعلي أتجنب عربدات السكارى، طلبت مشروبا غازيا، وجلست أبغي المزيد، وقد شدتني نظراتها المشمئزة وهي تلبي طلبات الزبائن، كأنها تريد أن تبسق على وجوههم، يتحرش بها هذا ويغمزها الآخر، وتحاول أن توبخهم لكن والدها الديوث لا يكاد يغيب عنها نظراته المتوعدة، فتنكمش على نفسها وتمضي ..
طفح السكر بأحدهم .. ناداها فأبت عليه، لكن نداءاته تعالت وأرعد وأزبد، فأرغمها والدها ووبخها فاستجابت له على مضض وقرف، فما كان منه إلا أن يرتمي عليها ويحاول عناقها وتقبيلها، لكنها دافعته بقوة حتى سقط وشج رأسه وأخذ جرحه يشخب دما قانيا، أفزع من في الحانة وأذهب الثمل عن أكثرهم، دخل الفتوات لتهدئة الوضع وحملوا الجريح إلى غرفة في الداخل، أما والدها الخمسيني فاحتقن وجهه بغضب هائل أفقده صوابه، حتى ظننت أن ضميره قد استيقظ وغيرته قد اضطرمت من تحت رماد الدياثة، لكن هيهات ... فها هو يمسكها من شعرها ويجرها إلى الداخل ويغلق عليه الباب بإحكام، لم يمنع صوت الموسيقى الصاخبة تسرب بعض ما يجري في الداخل، صرخات متقطعة ولعنات متتالية وتوسلات و ....
ويفتح الباب، عيناه زائغتان، وجهه مظلم يميل إلى الزرقة، شفتاه مزمومتان، يده على قلبه، يوشك أن يسقط، لم تترك له تلك الطعنة الجبارة التي تلقاها في قلبه من "قلبه" فرصة أخرى للحياة، لم يكن ذلك الأب الذي تمنته وداعب أحلامها، كانت تريده وطنا يحميها ويصونها، فكان غربتها القاسية والقذرة، تمنته أبا رحيما يحفظها بقلبه ويضعها في عينيه فإذا هو ذئب خبيث يأكل بشرفه وشرف أهله .. كانت تتمنى أن تكون زهرة حياته ونبضه، فإذا هي موته وحتفه .. كل هذا دار في رأسها وهي تقف ذاهلة قبل أن تستسلم ليأسها وتجهز بكل ما أوتيت من حياة على حياتها بطعنة في قلبها النازف ألما ولوعة، وهي تناديه بحرقة :
لماذا يا أبي ؟! .. لماذا يا أبي ؟!
-
محمد قصيدمحب للكتب، عاشق للقلم .. أمارس الحرف لأتنفس ولأزيح عن فكري وروحي ثقل الكلمات.
التعليقات
وشكرا لمتابعتكم لى