آلاف من الكلمات تنسج كل يوم تتشابك لتخلق عالما ،كُتاب جدد يجيئون كل يوم يخطون أولى خطواتهم على أرض الكتابة ،تولد حيوات جديدة في دنيا الكتابة يموت على إثرها أو يوشك حيوات أخرى في عالم الواقع ،لكن لا أحد يعلم على وجه اليقين لماذا يكتب !!
منذ القدم شرع الإنسان في رسم الكلمات ،ليعبر بها عن ذاته ،ربما ،أوليس الكلام كافيا ليعبر الشخص عن ذاته !!منذ القديم ،والأدباء يقفون حينا في منتصف طريق الكتابة يتلفتون خلفهم ،لماذا نكتب!! ،ما الكتابة أمخلوقة هي ،أحياة هي !! من أي مادة صنعت تلك ..
لا أحد يعلم على وجه الجزم لماذا يكتب أو ما الذي يدفعه إلى الكتابة !! ربما ذلك هو السر وراء استمرارية الكتابة ,معرفة كنه الشيء أو وصفه يفسد كثيرا من متعته يفقده قيمته مع مرور الزمن ،أما الكتابة فلا ..
جُل ما أوقنه بعد ذاك الشوط الذي قطعته على أرض الكتابة ،وهو ليس بالشوط الطويل ..هو أن المحرك الرئيسي للكتابة هو الألم ..الإبداع كله هو ألم في البداية ..لكن الكتابة يكفي لها أن تتوجع فتمتلأ محبرتك وتنفر ريشتك فتدفعك دفعا للكتابة ..لا أعلم ما السر لكنني أعرف عديدين ما كان لهم علاقة بالكتابة ،وليست لهم أساليب جيدة أو قريحة ،حين صفعهم وجع كتبوا ،كتبوا بمنتها الدقة كما لو أن لهم باع طويل مع القلم كتبوا بأسلوب محبوك وتشبيهات رائعة ولغة تعد ناضجة ،هل الالم يصنع القلم الجيد ،لا أدري !!
ما الذي يدفعنا للكتابة ،أهو واقعنا المليء بالخيبات ،حسنا ولماذا الكتابة تحديدا ،هل يفرغ القلم حقا أحزاننا المكبوتة فنرتاح ،إذا لماذا نعاود الكتابة مرات ومرات عدة ،ما الذي يجعل البعض يكتب ،وهو قد عهدها لم تعد عليه بشيء لا مقابل مادي ولا وضع اجتماعي ،وربما ولا حتى شهره ،لقد مكثت الكاتبة إيميلي ديكنسون* سنون طويلة تكتب لم تحظ في حياتها بالشهرة أو المال قط ،كانت حياتها فقط للكتابة ،ما الذي دفعها للإستمرارية !!
كل الذين كتبوا قالوا بأن الكتابة مزيج من الألم والبهجة المتعة واللذة ،الحياة والموت هي حياة على حافة الحياة ومشارف الموت ،لكنها مجهدة ،تتكلف الكثير ،تؤرق صاحبها حينا وتسكنه في تجاويف الحيرة والألم حينا ،لكنها كإدمان ،مع ألمه تبقى متشبثا به كأنه لا مهرب من أحزاننا سواه ،هل الكتابة هي الملجأ الوحيد من أحزاننا ،هل حقا تدثرنا وسط صقيع هذا العالم ، إذا لم نرتعد وترتجف أوصالنا ونحن نكتب أيضا ، لم نبكي أوليست الكلمات وجاءا لنا من البكاء ،تقول كاتبة "نحن البشر - نكتب لاننا عاجزون عن البكاء و نبكي لأننا عاجزون عن الكتابة ".
قالت لي صديقة منذ فترة ،لقد قرأت بأن كتابا عديدين أصابهم الجنون على إثر الكتابة ،علينا أن نتحاشاها حتى لا نصاب بجنون مثلهم ،هل نحن عقلاء بالمرتبة الأولى فنخشى على أنفسنا من أن توقعنا الكتابة بالجنون ،نحن بالأصل ممسوسين بشيء من الجنون ،لذلك نهرع إلى الكلمات علها ترد علينا شيء من عقولنا أو تخبرنا بأننا لا زلنا نمتلك بعضا من العقل ،لقد قال كتاب عديدون بأن الكتابة أعادت لهم فهمهم للواقع ،منحتهم القدرة على النظر للحياة بزاوية أخرى ،الجنون هو ألا نكتب ،فتشتد علينا وطأة الجنون فنهلك ..
بالنسبة لي ،الكتابة جوع حين أظل حينا بعيدة عن القلم ،يتآكلني الفقد وأمتلا بأمور عدة حتى أصبح متخمة بها ولا قدرة لي على حملها في باطني أكثر من ذلك فأهرع إلى سكبها في قالب الكلمات ،الكتابة هي آلاف الكلمات التي لم أسطع البوح بها لشخص ما فبحت بها إلى الأوراق ،ربما أملا مني أن تصل إلى المعني بها ،لقد قال أحدهم "الذين أرغمونا على الكتابة، وحدهم لا يقرأون لنا شيئاً " هل تصير الكتابة خيبة أخرى !!حتى إن لم تصل لأولئك الذين زجوا بنا إلى الكتابة فأردنا مخاطبتهم بها ،ستظل الكلمات رفيقتي المخلصة .
ستبقى الكتابة كالروح سر من أسرار الخالق ،نقترب بها على قدر طاقتتنا دون أن نعي كنهها أو وصفها ،ستظل الكلمات حصنا منيعا أمام كل مرجف أو متهكم بها ،ستظل ملاذا للعابرين في تلك الحياة ،القادمين والرائحين ،ستبقى حية لا تفنى ولكنها تستحدث من العدم .
* إيميلي ديكنسون (1830-1886) لم تتزوج ولم تنتظم في عمل ، ولم تسافر طوال حياتها. كرست حياتها الصامتة للكتابة، وكتبت 1775 قصيدة لم تنشر منها، في حياتها، إلا سبع قصائد .
نشرت الأعمال الكاملة لإيميلي ديكنسون عام 1955، أي بعد 69 سنة من وفاتِها. لم تحظ في حياتها بالمجد الأدبي الذي حصلت عليه بعد رحيلها عن العالم.
-
Heba Hamdyالكتابة صرخة ،نطلقها بعد أن تروض الحياة أحبالنا الصوتية على الصراخ المكتوم ...