رحلة الى رودوس - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رحلة الى رودوس

  نشر في 06 مارس 2018 .

الساعة تشير إلى الثامنة ليلا؛ آن للقطار الذي ترسو قاطراته في ميناء الدار البيضاء أن يطلق العنان لصافراته إيذانا ببدء الرحلة التي تجمع البيضاء بمحطة تونس العاصمة أو كذلك قيل لنا. كان صديقي "سعيد بكيري" قد استضافني ليومين في منزل العائلة الكائن بحي "الوازيس"تمكنت خلالها من اقتناء بعض لوازم السفر وتغيير دراهمي إلى دولارات. كانت وجهتي جمهورية مصر العربية حيث توجد أقرب تمثيلية دبلوماسية لأستراليا حسب ما قيل لي في قنصلية المملكة المتحدة بشارع آنفا. يعد الاستقرار في "ملبورن"؛ عاصمة أستراليا؛ خلية تنشط فيها أحلامي وتؤثث دقائق أيامي لذلك كنت مستعدا أن أذهب الى أبعد من القاهرة لأضع حلمي في طريق الحقيقة. في الجهة اليمنى من إحدى قاطرات الدرجة الثانية اتخذت مكاني بعد أن علقت أمتعتي في مكان اعد لذلك فوق مقعدي بعد أن ثبتته مخافة أن يسقط على رأسي الذي بدأ يتمايل مع تقدم القطار في طريقه خارج الدار البيضاء. ترتفع السرعة ويرتفع معها ضجيج تحدثه عجلات القطار المعدنية خلال استمرارها في الدوران مما يجعل السكون الليلي صعب المنال إن لم نقل مستحيلا. في المقعد الخلفي، جلس شاب وشابة يبدو من ملامحهما السلافية العميقة انتمائهما الأوروبي الأصيل؛ بينما جلس في مقابلتهما شاب أشقر ضخم البنية تبدو على ملامحه سحنة اسكندنافية. كانوا يتجاذبون أطراف الحديث عن كل شيء لكن الحديث استقر بهم عن غزو العراق للكويت والذي لم يمر عليه أسبوع كامل. كان لصيف 1991 ما يليه من أحداث ستغير خرائط فيما تلاها من سنوات. لقد سقط العراق القوي في فخ نصبه له حلفاء الأمس الأمريكيون ليكون الأمر وبالا على المنطقة كلها. ميولاتي اليسارية دفعتني إلى التداعي لكل ما هو قومي فلم أستطع أن امسك نفسي عن التدخل في حديث جيراني الذين وصفوا صدام حسين بالدكتاتور. هناك شيء آخر حرك تدخلي يكمن في رغبتي في خوض غمار حديث تكون اللغة الإنجليزية لسانه الفصيح ما سوف يطعم جوعي للتمرس في لغة استراليا الرسمية. رحبت المجموعة بالتحاقي بهم حيث اتخذت مكانا الى جانب دانيال –وهو سويدي مسيحي من أصل كردي يتحدث اللغة العربية بلكنة شامية- في المقابل جلس "إيفيتسا" رفقة صديقته “تانيا" وهما طالبان في العشرين من العمر ينحدران من مدينة زغرب عاصمة كرواتيا. مضت ساعات لا تكاد نار الحديث تهدأ إلى أن أطلق مضيف القطار تصريحا بالمشارفة على دخول القطار مدينة وجدة وبالتالي يتعين تغييره بالقطار الذي سيغادر الحدود المغربية بعد استيفاء الإجراءات التي تخول العبور. تقدم الجميع تجاه البوابة التي تقود إلى بهو فسيح اصطف على امتداد مساحته العرضية رجال الشرطة والجمارك بشكل يجعل الخروج نحو القطار سلسا سريعا. بعد ختم الجوازات، أشار إلينا أحد الموظفين بالتبضع بنبرة لا تخلوا من سخرية: "تبضعوا وإلا متتم جوعا" وقد كشف شاربه عن أسنان يميل لونها إلى البني لا ريب أن للسجائر اليد الطولى في ذلك.في المحطة اكشاك قد عرضت سلعا متنوعة من المشروبات والكعك والجبة والخبز والفطائر الجاهزة وأصناف الشكولاتة. لم أتردد في التزود بما قد يكفيني أي مفاجأة على الجانب الآخر من الحدود فملأت كيسا بلاستيكيا بما اتسع له من المقتنيات ثم التحقت بالمقطورة في انتظار أصدقائي الأوروبيين الذين اختاروا السفر بالقطار بحثا عن متعة لا يتيحها غيره من وسائل المواصلات. تحرك القطار ليتوقف بعد دقائق على مشارف مدينة "مغنية".

اصطف الركاب أمام مكاتب الجمارك حاملين أمتعتهم التي كانت تخضع لتفتيش سطحي بينما يقف في المدخل دركيون بلباس عسكري وقد أمسكت يمين كل واحد فيهم كلبا مدربا. كان الطاقم يشتغل بإيقاع سريع مكننا من مواصلة الرحلة في وقت وجيز. في الهامش مجموعة صنابير لم تكن لتثير انتباهي لولا العبارة التي كتبت عليها: "غير صالح للشرب". كنت أظن أن كل الصنابير تحمل مياها صالحة للشرب ولعلي لأول مرة المس نصيحة الموظف عن مفاجآت الجانب الآخر من الحدود. لحسن حظي، كانت قنينتان من ماء سيدي على ضمن ما أغلق عليه داخل الكيس البلاستيكي. دون إسراف، رويت ظمئي ثم واصلت طريقي نحو القاطرة التي سبقني دانيال إليها.

واصل القطار التهام المسافات إلى أن انخرط في سلسلة جبال شاهقة ومنعرجات خطيرة قيل لنا إنها تدخل في منطقة القبايل الشهيرة. سرعان ما استبد الظلام وانزوى المسافرون إلى أمتعتهم يحرسونها خوفا من أن تتخطفها أيادي عابثة. عندما توسط الليل، كان أحد المسافرين قد تقاسم مع راكب كان يرافقه سيجارة بطعم الحشيش ثم استسلم للنوم؛ لكن بمجرد أن توقف القطار في المحطة الموالية لثواني، انتظر المرافق لحظة تحرك العجلات من جديد ليلقي أمتعة مرافقه خارجا. لعله كان قد تواعد مع أحد شركائه في السرقة لالتقاط ما قد ينجح في الحصول عليه من ضحاياه. ثم عاد إلى جوار ضحيته وانخرط في سبات لم يفق منه إلا عندما صرخ مرافقه التونسي "لقد سرقت أمتعتي" كان يتظاهر بالتحسر على ما صار لكن نظرات بعض الركاب إليه دفعته إلى اغتنام فرصة توقف القطار ليرسل جسده النحيف خارجه فيتوارى بين ذيول الظلام بينما وقف التونسي يرقب في ذهول.

كنا نتوقع رسو القطار في وجهته النهائية بتونس العاصمة بحلول فجر اليوم الموالي إلا أن تباطؤ القطار جعلنا نتأخر في الوصول إلى الجزائر العاصمة في الوقت المحدد وبالتالي أخبرنا بالمكوث فيها لأربعة وعشرين ساعة إضافية. من مسجد يطل على الميناء، انطلق آذان المغرب بينما كنا نتبع الحشود المنسحبة من ساحة الميناء السككي المتهالكة دون أن نتمكن من تحديد وجهتنا ؛ كل ما كان يشغلنا هو العثور على فندق نبدد على أسِرَته وعتاء الرحلة المضنية . قبل أن تغادر السور، انتبهنا إلى مجموعة مكونة من ثلاثة شبان كانت تترصدنا وتحصي خطواتنا. صار التعرض للسرقة هاجسا وقد اتفقنا على خطة مواجهة في حال ساءت الأمور. كان دانيال رياضيا متميزا؛ لذلك نصحنا بحراسة ظهره على أن يواجه المجموعة بمفرده معتمدا على خبرة قتالية شب على تكوينها. توقفنا فجأة، أحاط ثلاثتنا بظهر مقاتلنا السويدي بينما اتخذ هو وضعا دفاعيا ما جعل مترصدينا يتوقفون في مواجهتنا ليشهروا بطائق أثبتت انتسابهم لسلك الشرطة. قال احدهم إنهم ظلوا يرقبوننا خشية أن نتعرض لهجوم من منحرفين أو لصوص وعندما علموا أنني مغربي، أصروا أن يواكبونا في البحث عن فندق. مرت ساعة كاملة دون أن نتمكن من الحصول على مبتغانا؛ إذ كانت الفنادق صغيرة في مجملها؛ وقد أشهرت لوحات علقت في المدخل تخبر بكونها لا تتوفر على غرف شاغرة. قرب الجزائر من النظام السوفيتي جعلها تنتهج نظاما اقرب للاشتراكية لذلك كانت المشاريع الخاصة قليلة وصغيرة جدا كما أن سياسة الانغلاق جعلت الطلب على المرافق السياحية محدودا. بعد أن تمكن العياء من أجسادنا المنهكة وفقدنا الامل في العثور على مأوى، قام مرافقونا من رجال الشرطة بأخذنا الى فندق مصنف في ملكية الدولة حيث عرض علينا مدير الاستقبال المكوث في قاعة الزوار والاستراحة على كنباته مجانا إلى حلول الصباح. فرح رجال الشرطة بعد أن قدمنا لهم السجائر المغربية العالمية وقنينتي "سيم اورانج" فعلق أحدهم أنهم سمعوا عنها في إذاعة ميدي 1 وقد آن لهم أن يتذوقوها.

كل البضائع المعروضة بما فيها السجائر والمشروبات وغيرها هي من صنع جزائري محض وبالتالي فهي تفتقد الجودة أمام ما تعودنا عليه في المغرب؛ بل تكاد بعض أنواع الأكل والخضر والفواكه تكون نادرة لدرجة يستوجب الحصول عليها إذنا إداريا خاصا. مع مغادرة آخر خيوط الظلام وجه السماء، جر كل منا متاعه بحثا عن فندق ننام فيه إلى حدود السابعة مساء موعد انطلاق القطار الذي سيأخذنا إلى عنابة ومنها إلى تونس.

كادت مساعينا أن تخيب إلى أن استطعنا أن نتحوز مفتاح غرفة بائسة بعد أن أقنعنا صاحب النزل بأننا لن نقيم فيها؛ بل سنكتفي بإيداع متاعنا وكذلك كان. نفذ ما اشتريناه في المغرب من أكل؛ فصرنا نسأل عن مكان يباع فيه اللحم أو الدجاج أو ما شابه ذلك وقد أشار علينا المارة ب"جامع ليهود". لم يكن المكان بعيدا، وأمامنا يوم كامل لاستكشاف المدينة؛ لذلك كنا نسير في هدوء إلى أن وصلنا إلى ساحة فسيحة مكتظة بالباعة والمتسوقين. كانت الأموال التي يتداولونها أكثر بكثير من السلع المعروضة نتيجة للتضخم وانهيار العملة. أحاط بنا مجموعة من المتطفلين عارضين شراء الدرهم أو أية عملة أجنبية بضعف قيمتها في الأبناك؛ لكن اهتمامنا ظل مركزا على العثور على ما نسكت به الجوع فدلنا البعض على مقهى يبيع الدجاج المحمر. اقترحنا شراء أربعة دجاجات على أن نحتفظ باثنتين لبقية الرحلة؛ لكن البائع رفض بشدة معللا أن الدجاج الذي يبيعه قد ينفذ ولن يجد ما يدفع لزبائنه وانه يحق لنا أن نأخذ دجاجة واحدة على أساس ربع لكل فرد. أصابنا الذهول ولكن الجوع دفعنا إلى اقتسام الدجاجة الوحيدة.

يعج شارع "ديدوش مراد" بالمارة من أعمار مختلفة يكادون يتفقون علي إيقاع مشي موحد وعلى معظم الوجوه ارتسمت علامات توحي بالانشغال. كنا قد سلكنا احد الأزقة الفرعية في اتجاه الميناء السككي وقد نجحنا في تغيير بطاقات القطار إلى أخرى تخول لنا الحصول على أسِرَة بدل المقاعد المعتادة. وبهذا ، ستطول إقامتنا في العاصمة لساعتين إضافيتين. لم تكن المدينة بالحداثة التي عليها شقيقاتها خلف الحدود الغربية والشرقية؛ إذ أن المباني ظلت تتحدث عن حقبة استعمارية طويلة؛ كما أن هيئتها توحي بأنها لم تذق طعم الطلاء منذ سنين ليست بالقريبة. أشار علينا بعض الراجلين بزيارة معلمة "مقام الشهيد" حيث قبر الجندي المجهول الذي يرسو على ثلة مرتفعة تطل على المدينة؛ ولم يكن إدراكها مشيا على الأقدام متاحا لمن لا يملك أريحية الوقت. لذلك، استقل أربعتنا سيارة أجرة؛ وما إن بدأت في الارتفاع حتى صار مظهر المدينة يتصاغر وملامحها تلتئم. في الأعلى، مجموعة متاجر ومقاهي ومطاعم؛ تعرض ما تنوع من خدمات لزوار المتحف الذي يتوسطه قبر رمزي؛ وضعت عليه أكاليل من ورود ويحفه أربعة رجال بلباس نظامي لجنود من العصر العثماني حسب بطاقة معلومات نقشت على رخام المقام. أمضينا ردهة من الزمن استمتعنا خلالها بتمازج زرقة البحر ومشاهد بيوت القصبة القديمة المحاذية للميناء الذي حلقت فوقه أسراب من طائر النورس. بمغادرتنا إلى الكورنيش، صادفنا مهرجانا احتفاليا لأنصار السياسي العائد مؤخرا من المنفى "أحمد بن بلة". كان الشباب يرقصون على أنغام موسيقى "الراي" بينما زينت صوره منصة ثبتت عليها ترسانة من مكبرات الصوت. سرعان ما انطلقنا صوب النزل لالتقاط أمتعتنا ثم تدحرجنا في اتجاه الميناء. هناك تمكننا من تناول حساء سمك وخبز؛ يكاد يكون مطاطا. لم تكن السلع بالوفرة والتنوع اللذان يتيحان كثيرا من الاختيارات؛ كل ما في الأمر هناك سبعة أنواع من السجائر تحمل أسماء تواريخ تشير إلى أحداث عاشتها الجزائر وأربعة ألوان من الصودة أو الكازوز وبعض مشتقات الحليب المصبرة و التي كنا نشتريها، نتذوقها ثم نتركها جانبا. كان التفكير في النوم في حد ذاته مدعاة للسعادة ومصدر انشراح. في غرفة مجاورة، استقر الصديقان الكرواتيان؛ و بينما ألقى دانيال جسده الضخم على السرير الأسفل، أرسلت يدي إلى سلم على الجانب لأعتلي السرير الفوقي؛ وقبل أن أتم تمددي، تناهى إلى مسامعي صوت شخير الشاب السويدي ثم أسلمت جوارحي إلى التعب الذي تملك نفسي وبسط سلطانه على جسدي.

الساعة تشير إلى العاشرة صباحا وقد جاء ايفيتسا يوقظنا بعد أن لاحظ عدم انتباهنا لصوت المضيف الذي كان يخبر الركاب بالاستعداد لمغادرة القطار نحو قطار تونسي سوف يكمل بنا الرحلة الى تونس العاصمة انطلاقا من "عنابة". الساعات الطويلة التي نمتها لم تكن بالتركيز الكافي لكي أحس بالراحة التامة ناهيك عن آلام عضلية نتيجة حمل الأمتعة لمسافات ليست بالقصيرة. عندما نزلت من سريري المعلق، كنت أتقاسم إحساس ذبابة نالها قسط من المبيد الحشري غير انه لم يكن بالتركيز الكافي ليرسلها إلى العالم الآخر. من جديد أطلت تانيا؛ الفتاة الكرواتية الشقراء؛ برأسها داخل المقصورة : "أن أسرعوا أيها الكسالى. المسافرون بدؤوا بالمغادرة". بخطى متثاقلة، تسارعنا نحو البوابة التي تكدس فيها مجموعة تتحرك ببطء. وبعد أن قمنا بتغيير تذاكر القطار؛ أُخبرنا بأن الرحلة ستنطلق بعد زهاء ساعتين؛ ما سيتيح لنا التجول في الأنحاء؛ وبذلك كان لنا أن نكتشف المدينة الجميلة التي تجمع بين المعالم الفرنسية الهندسية الرائعة وبين البنايات الحديثة التي اصطفت في أسفلها مجموعات من المتاجر والمطاعم والمقاهي تقدم سلعا أكثر جاذبية وتنوعا من العاصمة ولربما كان القرب من تونس عاملا رئيسيا في ذالك. الشعب الجزائري شعب رائع وودود إذ كانت كلمة "مرحبا الخاوة" تتردد بكثير أينما انتهى بنا الأمر. الواضح أن للمغاربة مكان في قلب كل جزائري لم تكن السياسة لتزعزعه؛ فيتولد عنه شعور قوي يجعلك تحس كأنك في بلدك بدون أدنى شك. دارت عجلة القطار من جديد، وعاد ذلك الصوت المزعج ليتربع على عرش آذاننا قبل أن فتستقله مجموعة من رجال الجمارك التونسيين؛ وقد جاءوا للقيام بإجراءات التأشير والتفتيش على متن القطار . أغلقت البوابات بإحكام، فلا يتم فتحها إلا بواسطة احد موظفي القطار يتقدم طاقم الجمارك؛ يتنقلون من عربة إلى أخرى؛ يسألون ويفتشون قبل ختم الجوازات. كان الكرواتيان قد اقتنيا نصف كيلوا من الحناء من احد أسواق مراكش؛ لكن الجمركي عندما سأل عن ماهيتها لم يستطع استيعاب تفسير ايفيتسا لجهله اللغة الانجليزية؛ كما أن فرنسيته كانت ركيكة جدا. حاولت أن اشرح له فإذا به ينهرني و يرشقني بنظرات غاضبة تشبه نظرات المعلم الذي يوبخ تلميذه:"اخرس، من طلب منك أن تكون مترجما". من الواضح انه يعاني في صمت من ضحالة إمكانياته اللغوية وكان يحاول أن يلف عجزه وجهله بغطاء هجومي أو لعل به أعراض داء الاستبداد الذي يحمله جل رجالات زين العابدين بن علي . ومع ذلك فقد كان فيما قلته له ما يوحي بأن المسحوق الأخضر لم يكن سوى حناء مقتناة من ساحة جامع الفنا. امسك كيس الحناء وألقاه من نافذة القطار مردفا : " هناك في تونس حناء لا مثيل لها على وجه الارض". لم تكن ابتسامته الخفيفة التي اهتزت معها شعيرات انفه وأذنيه وتمخض عنها فج يتوسط أسنانه التي يبدوا أن الكحول رسمت سوادها على معظمها لتمحوا امتعاض رفيقتنا وصديقها من الطريقة الوقحة التي تعامل بها. بعد أن انصرفوا وختمت جوازاتنا، صعدت الى القاطرة مخلوقات صغيرة تحمل سلعا متنوعة من شكولاتة ومعلبات وليمونادة مصدرها تونس. يا للروعة. كان احدهم يحمل صندوقا صغيرا بداخله زهاء عشرين قنينة صغيرة من مشروبي فانتا وكوكاكولا. قبل أن يتمكن من تسليك سلعته، أشرت إليه ببيعي كل ما في الصندوق فرحب بسعادة لا تضاهيها إلا سعادتي وأنا استقبل أولى القطرات التي بدأت تتدفق نحو معدتي عبر حلقي . و بينما كنت اروي عطشي وشوقي إلى تلك المشروبات التي افتقدتها منذ غادرت بلدي، كنت أظن أني سأستبد بجميعها لكني توقفت بعد 4 قنينات لأشرع في توزيع الباقي على الركاب بعد أن اخبرني البائع الصغير أننا على مشارف العاصمة.

في ظروف مشابهة لتلك التي جمعتني برفاق رحلة القطار، كانت الحافلة التي تربط مراكش بأغادير مسرحا للقاء الأول بين الثنائي الكرواتي و الشاب السويدي سرعان ما تحول إلى صداقة. على رمال شاطئ تاغازوت، وضعت المجموعة برنامجا حددت من خلاله الوجهة النهائية المنشودة دون إغفال ابسط الجزئيات من فنادق ومعالم وأماكن وجبت زيارتها.بينما كنت تائها أبحث عن طريق تضعني أسير على خطى ضالتي؛ وكان كل شئ اعتباطيا، كان أعضاء مجموعة القطار أكثر تنظيما. لذلك، نصحني دانيال بالتريث في اقتناء تذكرة الطائرة المتوجهة إلى القاهرة قبل الذهاب إلى سفارة مصر بالعاصمة للاستفسار أولا؛ ودعاني إلى المكوث معهم ليومين يغادرون بعدها إلى جزيرة "جربة" -أحد أجمل الجزر العالمية- وأطير أنا نحو بلاد الكنانة. بعد الاستحمام، غيرنا الملابس التي كست أجسامنا منذ انطلاق الرحلة والتي يبدو أنها نالت قسطها من وعتاء ومشقة السفر، ثم تدحرج كل واحد منا نحو قاعة الاستقبال ومنها إلى الشارع. على مسيرة خمسة دقائق، استقبَلَنا شارعٌ فسيح تملأه البنايات الشاهقة والساحات الخضراء ويتوسطه مبنى وقف على أبوابه رجال بزي نظامي يحملون أسلحة رشاشة؛ وعلى وجوههم جثمت قسمات عابسة توحي بالصرامة؛ في أعلى المبنى رُسِخت يافطة كبيرة كتب عليها : "وزارة الداخلية". إلى جانبها، يتميز شارع بورقيبة بكونه قلب العاصمة النابض بكل أشكال الحياة؛ فهو مركز التسوق والتجول والإدارات والمنتزهات وفضاء للعروض البهلوانية و"مسرح الشارع" والمقاهي والمطاعم. لذلك، تجده يصل الليل بالنهار فلا يكاد يغادره زوار الليل حتى تدب الحياة في أرجاءه من جديد. بعد تناول وجبة العشاء في أحد مطاعم النهج الكبير، صادفنا أحد شباب العاصمة الذي عرض مرافقتنا في جولة سياحية دون اخذ مقابل؛ كان كل همه أن يتحدث بالانجليزية التي كان يحبها و كان مليئا بالحياة ولكنه كان يشكو من استبداد النظام الحاكم فلا يكف من ترديد جملة : "عود ثقاب واحد يشعل تونس برمتها".

"علينا الاسراع في العودة؛ فلقد اخبرنا صاحب الفندق انه يغلق الأبواب بعد منتصف الليل " ؛ صاحت "تانيا" منبهة. كانت "تانيا" و"إفيتسا" قد أمضيا سنوات الدراسة الجامعية في لندن؛ مكنتهما من ربط علاقة صداقة بتونسية تدعى "أمل بنحليمة" من سكان العاصمة وكانت لا تلح في دعوتهما لزيارة تونس بل كانت من شجعهما على خوض غمار السفر ومن تم اقنعا "دانييل" بمرافقتهما. لكن "تانيا" أضاعت مذكرة كانت قد دونت فيها عنوان "امل بنحليمة" على شاطئ اغادير؛ لذلك كان علي أن أهاتف كل من يحمل هذا الاسم على دليل المشتركين للهاتف الثابت.

بعد محاولات متكررة، تواصلت مع شخص تبدو أجوبته مستفزة إذ كان يحرص على معرفة المكان الذي أتحدث منه دون أن يستطيع إخفاء ثورة بركان الغضب الذي كان ينشط بداخله، كان يسأل عن علاقتي ب"أمل" وكيف عرفتها ولم يكن متفهما مما دفعني الى إنهاء المكالمة. توجهت إلى نهج الفردوس وتحديدا زنقة محمد الخامس حيث يقبع مبنى السفارة. في الاستقبال، رجل تجاوز سن التقاعد بسنوات وقد أرخى حبال سمعه حتى يتمكن من فهم ما جئت لأجله. كان التواصل معه صعبا فهو لا يفهمني؛ كما أن لهجة الأفلام المصرية تفقدني التركيز؛ إلا أنه كان في صبورا معي وقد وعدني بالاستفسار على أن أنتظره زهاء الساعة.

خرجت من السفارة نحو الشارع فاستوقفني مبنى يعتليه مجسم لفلفل أحمر. في الداخل دكاكين تبيع منتجات الفلفل بألوانه وأنواعه على اختلاف أحجامه وتركيزه؛ إنها المرة الاولى التي أشاهد فيها هذا التفنن في صنع "الهريسة". في ساحة تتوسط المبنى أكوام الفلفل تباع بنظام "الدلالة" فيتحوزها من يدفع أكثر. أصبت بالذهول من حجم الاهتمام الذي يوليه أحفاد موسى بن نصير لهذا المنتوج الفلاحي الذي لا يستسيغه معظم الناس؛ كونه لاذعا جدا. ولأنني ليس من عشاق الفلفل الحار، فقد كانت دهشتي كبيرة عندما شاهدت حلويات بطعم الهريسة و كانت نفسي تحدثني بتذوقها، لكن تجارب الماضي طردت ذلك الاحساس بتذكيري بالآلام التي تجرعتها. قبل انقضاء ساعة، كنت أقف أمام العجوز الذي اخبرني أن المصالح الدبلوماسية الاسترالية بالقاهرة لم تعد تقدم الخدمات القنصلية للراغبين في الحصول على تأشيرة سياحية. كان للخبر وقع الصدمة وقد شردت كل أفكاري وفقدت حبال التركيز في غمار أمواج عاتية تتقاذفني فاستدركني الموظف العجوز قائلا :"إن الخير فيما اختاره الله.". ثم انصرفت أجر أذيال الخيبة.

في باب الفندق وقف أصدقائي الثلاثة يترقبون عودتي وقد استقر رأيهم على الذهاب إلى مبنى وزارة الداخلية للاستفسار عن عنوان التونسية "أمل بنحليمة". كان "إيفيتسا" يكاد يجزم أن سجلات الداخلية كفيلة بالإرشاد عن مكان سكنى "أمل" ظنا من الجميع أن الأمور تسير هنا كما هي عليه في أوروبا. على محياي، قصة ما حدث وما حملته زيارة سفارة مصر؛ لم يكن الأمر يحتاجا تفسيرا وبقراءته توصل أصدقائي إلى فحواه فعمد "دانيال" إلى مواساتي قائلا : "أحرى بك أن تكون سعيدا؛ كانت الصدمة ستكون أقوى لو كنت في القاهرة، بإمكانك مرافقتنا إلى "جربة"؛ نقضي أسبوعا تحت أشعة الشمس الذهبية، ثم نرى ما يمكن فعله". كانت واقعية كلماته كافية لأن تخرجني من دوامة التخبط، وسرعان ما ارتسمت الابتسامة من جديد على خدي.

وزارة الداخلية تبدو من بعيد متغطرسة بين بنايات تحفها وتقابلها وقد أحيطت بسياج حديدي سميك يمنع المارة من العبور بمحاذاتها؛ لذلك استنفر اقترابنا من بوابتها حراسها الذين أمرونا بالانصراف فسألت أحدهم: "أليست هذه وزارة الداخلية؟ أصدقائي يريدون بيانات صديقة لهم " لم ينتظر حتى أكمل حديثي فأجابني بنبرة غاضبة "قل لهم إنه الحمام؛ وإن لم ينصرفوا فورا سنجعلهم يتعرفون عليه ويستحمون قصرا" قبل أن يسترسل في حديثه كانت قدماي قد بدأت في التدرج نحو الأسفل ومغادرة أجواء المبنى المقيت؛ تذكرت ساعتها الجمركي الوضيع وعجرفته فالتفتت إلى أصدقائي قائلا :" لا أمل في وجود "أمل" هؤلاء الطغاة يَسألون ولا يُسأَلون". على الرصيف المقابل تناولنا شطائر وقد قررنا المغادرة صباح اليوم التالي إلى الجزيرة.

بينما كان الثنائي الكرواتي يعيش حياة لا مكان للشعائر الدينية فيها، كان دانيال متدينا حتى النخاع؛ فقد جعل لقراءة الإنجيل نصيبا من وقته وكان يلتزم إلى حد كبير بتعاليمه ولا يكف عن الإخبار بها؛ وقد حاول أن يستقطبني إلى النصرانية بعد أن أهداني أحد إصدارات الكتاب المقدس. كانت فصوله الاولى تتحدث عن الخلق وعن آدم وحواء وإغواء الشيطان لها لتدفع آدم إلى أكل "التفاحة" كي يبرهن على حبه لها؛ مما جعل "الرب" يعاقبها بأنها لن تلد حتى تعيش آلام شديدة. كان هناك تقارب شكلي في قصة الخلق بين ما اتى به الاسلام وما جاء في الإنجيل لكن أسلوب صياغته، لا يجعل منه ناموسا ربانيا؛ ناهيك عن التناقض الصريح بين القصص القرآني والسرد الانجيلي من حيث الحقائق والحيثيات. فهو ينكر إسماعيل وأمه هاجر وبناء إبراهيم وولده لمكة بينما يعتبر إسحاق هو الذبيح ويقول إن "الرب" أراد التقرب من عباده فأرسل لهم "ابنه" "المسيح عيسى بن مريم" ليعلمهم ويهديهم سواء السبيل لكنهم خانوه وقتلوه.... وهذه أشياء لم أكن لأقبل بها. الذي لم يتفطن إليه دانيال هو أني كنت اسعى الى استغلال تدينه لادفعه الى معرفة الاسلام لكن ثقافتي الدينية تفتقد الحجة والبينة فاتفقنا بعد نقاشات عقيمة ان الدين يخرج من عين واحدة وبذلك اقتنع دانيال بأن محاولات استقطابي لن تنجح فأحجم عن ذلك فيما تلى من ايام.

كنت آخر من اقتنى تذكرة السفر الى جزيرة جربة ولكنني أقر بكوني محظوظا هذه المرة إذ نجحت في الالتحاق بنفس الحافلة التي تقل اصدقائي. بجانبي جلست شابة تونسية قد سيطرت رائحة عطرها على اجواء الحافلة الخلفية. كانت عيناها مركزة على مجلة تمعن في تقليب صفحاتها وفي يدها قلم تدون به ارقاما هاتفية وعناوين. انهماكها في ذلك كان يفصلها عن عالم الحافلة المتنوع شكلا ومضمونا. رؤوس تتمايل هنا وهناك وبداخلها اجتمعت افكار واحلام وهواجس. كل يحمل تبريرا لوجوده ويسعى من خلال ذلك الى اثباته بالتواصل مع مكونات نفسه ليرسوا الاثنان على يابسة تحقق الانسجام بين الذات والنفس و تأطر علاقة كل منهما بالآخر.

جثم الصمت على أديم الحافلة لفترة يخترقه شخير متقطع احيانا وقد تبدد نقاءه "رياح" تصدر عن أحد المسافرين في غفلة نومه يصبح التعايش معها احيانا صعبا للغاية فيقوم المتضرر الاقرب بوكز النائم حتى يعود عن غيه بينما تتطوع احدى النسوة برش قبسات من عطرها الشخصي للتخلص من الرائحة المشينة التي قد تدفع للغتيان احيانا. ظلت الراشدة التونسية على ما هي عليه من الانهماك طوال الوقت غير مهتمة بما يحيط بها بينما كنت في حاجة الى الدردشة " تقرقيب الناب" لطرد الملل الذي تفنن في تعذيبي. كان اصدقائي يجلسون في المقدمة، بينما كان الجزء الخلفي مستقرا لي، وكنت أشاهد شفاههم تتحرك فاحسدهم على ذلك بل واكاد احزن على وضعي في هذه الجزيرة الخالية من كل حيوية او اثارة إلا ما كان من صاحب البطن المتدفقة غازات. اخترق السكون صوت السائق ينادي "سوسة سوسة" بينما شرع البعض في جمع امتعتهم استعدادا لمغادرة الحافلة. "سنتوقف نصف الساعة " قال السائق قبل أن يغادر.

أمام كشك للخدمات السريعة خارج محطة سوسة الطرقية تجمع اربعتنا نتبادل اطراف الحديث ونشرب قهوة ساخنة بينما لاحظ دانيال جارتي الصامتة تختلس النظرات الى المجموعة وكأن لسان حالها يقول :"ايش جاب الشامي للمغربي". كانت تخالني من ابناء جلدتها لذلك استغربت عندما سمعتني أتحدث لغة "شكسبير" هي تعلم أن اغلب التوانسة يجيدون الفرنسية والألمانية بحكم عدد السياح الألمان الذين دأبوا على زيارة البلاد ومنهم من انتهى به المطاف في احد دروبها العتيقة لينهي مسلسل حياته فيها. دارت عجلات الحافلة من جديد، وبينما كانت عيناي ترقب منظر قطيع ماشية وقد سيق إلى نبع مائي، سألتني رفيقة المقعد التونسية عن وجهتي؛ لتتبين جنسيتي التي ما كان لها أن تضعها موضع الشك لولا الانسجام الذي لاحظته بيني ورفاقي الأوروبيين.. كانت تدفع الجُمَلَ دفعا فترفع صبيب المفردات بشكل لا أستطيع معه تبين ما تقوله فأكتفي بتحريك رأسي تظاهرا بفهمها، ثم استوقفتها لأسألها أن تخفض إيقاع حديثها حتى أتمكن من اقتناص مفردات تساعدني على استيعاب منطقوها. اللهجة المحلية مفهومة إلى حد كبير شريطة أن لا يسرع مستعملها؛ وكذلك أخبرتني بأنها تشتغل كمندوبة تجارية لدى مطبعة بالعاصمة وإنها جاءت لجزيرة "جربة" لتحفيز مجموعة من الشركات والمهنيين لاقتناء احد منتجات الشركة الإشهارية. ثم استرسلت في الحديث عن أهلها وإخوتها وكل شئ وكأنها كانت تصرف سويعات الصمت التي قضتها تجهز لائحة المحلات التي ستطوف بها لتسويق منتوجها. لم يسكتها إلا صوت السائق وهو يصيح من جديد "صفاقس .. صفاقس".

أثناء لحظات الاستراحة، تعرفت التونسية "سارة" على باقي أفراد مجموعة القطار وتقاسمت مع الكرواتيان الحديث عن "جربة"؛ وبينما كان "إيفيتسا" يستفسر عن أماكن ومطاعم ومتنزهات، تقوم "تانيا" بتدوين كل ما وصل إلى أذنيها من معلومات. في المقابل، تقاسمت و دانيال ابتسامة لا مبرر مباشر لها.

عندما كان أفراد المجموعة يسألون عن أبسط الأشياء، كنت أستصغر من شأنهم وكواليس عقلي تصفهم بالغباء؛ لكن التجربة أكدت أنهم كانوا يعيشون بدون مركبات نقص فلا يخجلون من الاستفسار؛ بينما كنت كأغلب من هم من بني جلدتي، لم أتعود أن أسأل عن أي شئ أجهله؛ لأن العناد يتملكني، أو لربما هو نوع من القيود التي تجعل المرء يرفض أن يظهر في موقف الجاهل بالأمور؛ أو هو الادعاء بمعرفة الأشياء ومغالبة مركبات النقص؛ لإعطاء الانطباع على كمال سلوكنا واتساع رؤيتنا وتمجيدا للشخصية الظاهرية التي نريد أن يحكم الناس علينا من خلالها؛ والتي يمكن أن تخفي أهوالا وعيوبا يخجل الإنس والجان منها.

على مشارف جربة، توقفت الحافلة في انتظار عَبَّارَة تحملنا إلى شاطئ الجزيرة. فنزل الجميع إلى رصيف الميناء على خليج "قابس" يرقبون أسراب طيور النورس تتباهى برشاقة أجنحتها وقدرتها على ركوب صهوة السماء بشكل تبدو معه وكأنها تراقص الريح؛ أما صخبها ففي تناغم شديد مع أصوات الأمواج الفاترة الخجولة .

مزق صوت منبه قوي فؤاد السكون الذي عم المكان للحظات. كانت العبارة في طريقها إلى الرصيف وقد اصطفت الناقلات بإشارة من موظف العبور في انتظار الإذن بالتحرك نحو جوف العبارة. لم يستغرق الانتقال إلى الضفة الأخرى إلا دقائق معدودة سافرت خلالها مخيلتي بعيدا في عبق التاريخ وقد تراءت بنايات الجزيرة بطلائها الأزرق الفاتح الذي لا تخطئه العين؛ هذه جزيرة الأحلام والمساجد كما سموها ومدينة الطائفة اليهودية ومحجها الموسمي بامتياز. واصلت الحافلة طريقها نحو وسط المدينة وكان أول ما استقبلنا قطيع من الإبل عابرا الطريق الإسفلتي دون أن يكلف نفسه عناء الإسراع. أثناء ذلك الانتظار الجبري سألت "سارة" عمن تكون كل تلك الإبل له ملكا؛ فكان جوابها إنها في ملك تونس تهيم على أديم الجزيرة وتتكاثر فيها لتملئ الخمسمائة كيلومتر مربع حياة وثغاء بينما تتكفل وزارة السياحة برعايتها.

أخذتنا سارة إلى فندق صغير تعرف صاحبه؛ وبعد أن أوصته برعاية طلباتنا، انصرفت لمقابلة زبائنها على أن نلتقي في المساء لتناول وجبة العشاء.

يعود الفندق إلى بدايات القرن العشرين؛ لذلك كان تصميمه مستمدا من الثقافة المغاربية السائدة آنذاك. الجدران سميكة والأبواب مقوسة والمفاتيح الضخمة تذكرني بأيام الصبا وبادية "بن يفو" والمفاتيح التي صارت فيما بعد تستعمل في دق قالب السكر وتحويله إلى أجزاء صغيرة.

بعد تناول وجبة الإفطار، تزودنا ببعض الساندويتشات التي أعدتها "تانيا" بمساعدة "دانييل" بينما خرجت رفقة "إيفيتسا" لجلب الخبز وبعض المشروبات الغازية وذلك سيرا على نصيحة سارة التي كانت قد حذرتنا من الاعتماد على معروضات الفندق الشاطئي التي تضاعف عشر مرات سعرها الحقيقي؛ وبذلك كان لقائنا بالتونسية الشابة قد بدأ يؤتي تماره. بما أن أفراد المجموعة لا يحملون مالا سائلا إلا ما كان مدخرا في بطاقاتهم البنكية، فقد كنت أدفع نقدا على أن يتم تدوين المصروفات لاقتسامها عند نهاية الرحلة؛ وبهذا كان لي دور الأب الذي يدفع لأطفاله مصروف الجيب وكنا نتمازح لعبا على هذا الوتر. فأقول لدانيال "اسمع أيها الفتى الشقي، إن لم تحصل على نتائج جيدة فلسوف أحرمك من المصروف بل من الميراث كله"؛ فيتظاهر بالبكاء ويشرع في الاستعطاف وطلب الصفح. بعد هذا صار أفراد المجموعة ينادونني "دادي" أي "أبي" فكان الناس يلتفتون إلي في استغراب ثم يرسمون على شفاههم ابتسامة ظريفة تحية لتلك الدعابة.

فندق "هوليداي بيتش" يوجد على بعد كيلومترات من وسط المدينة وطريقه تتخللها مناظر طبيعية متوحشة خلابة وأسراب الجمال هنا وهناك؛ ولولا نسمات البحر اللطيفة وطيوره المهاجرة لخلت نفسي أتجول في ممر النخيل بالمدينة الحمراء.

عند باب الفندق وقف رجلان أسودا البشرة، مرشوقا القوام؛ وقد تزينا بقمصان بيضاء مرصعة بنقوش حمراء جميلة تتخللها خيوط ذهبية؛ أما حزامها، فكان سمكه يقارب حزاما مستحقا من إحدى بطولات الملاكمة. كان الرجلان ينحنيان لكل من همت قدماه أن تتقدم إلى الداخل دون أن تغادر ابتسامة عريضة سماء وجهيهما.

التونسيون عموما أناس مسالمون، لا تكاد ترى مشاجرة ولا تسمع لهم صوتا يرفع؛ وأحيانا يتنازلون تجنبا للمشاكل؛ ولربما كانت للقبضة الأمنية التي كان يفرضها رجال "بن علي" اليد الطولى في ذلك الأمر. اجتزنا قلب الفندق نحو الشاطئ دون أن يعترض طريقنا أحد بل كنا نسمع الموظفين يخاطبوننا بلفظ Guten Tag وهي عبارة ترحيب بالألمانية.

الشاطئ يعج بالألمان وقد تفرقوا بين مستحم ومن مدد جسده على رمال الشاطئ الذهبية ومن يمارس الرياضة ومن كان قد أكترى جملا أو حصانا في جولة على الشاطئ الهادئ الذي لا تعرف الأمواج إليه طريقا؛ كما أن دفئ مياهه يشجعك على ركوب غماره، والاستمتاع بمداعبته، دون خوف من أن تنقض عليك أحد أمواجه فتجرك بعيدا إلى سكون عمقه لتصبح حياتك في مهب الريح. بينما كنت غارقا في لج تأملاتي، افترش الكرواتيان فوطتان بحريتان وقد شرعا في تبادل دلك ظهريهما بمسحوق لازج يحمي من لسعات الشمس؛ كانا قد جلباه معهما من كرواتيا؛ أما دانيال، فقد اكتفي بوضعية القرفصاء حاملا بين يديه الكتاب المقدس وقد شرعت أنامله في تقليب صفحاته.

ذهب الثنائي الكرواتي لمعانقة مياه البحر بينما كان دانييل لازال غارقا بين سطور إنجيله؛ تذكرت ليلة أحاط بنا رجال الشرطة في محطة القطار الجزائرية وكيف دفع الاعتقاد بكونهم قطاع طرق "دانييل" بزعم قدرته على مواجهتهم لوحده، وكيف أن نفسي تستصغر مزاعمه وتعتبرها نوعا من المغالاة والمغامرة ليس إلا؛ رجل بحسن أخلاقه وطيبوبته لا يمكن أن يتصدى لقطاع الطرق؛ وإنما دفعه كرم أخلاقه للتضحية بنفسه وامتصاص غضبهم وكذلك أوحت إلي نفسي. الفرصة سانحة لمحو تلك الهواجس لذلك طلبت من دانيال تلقيني حركات للدفاع عن النفس؛ فوضع إنجيله في محفظته اليدوية؛ ثم بعد أن طلب مني الهجوم عليه، صار يتلاعب بجسدي كما تفعل القطة بصيدها؛ كان يجمع بين قوة الجسم وتقنية عثاة مصارعي الأيكيدو فكانت مجرد حركة بسيطة كافية لإسقاط المهاجم في شرك قوته التي بدل أن تسعفه وتكون لغارته زادا، تكون لدانييل مادة خامة يستعملها بمهارة وإتقان. العرض الفريد للمقاتل السويدي جلب أنظار الألمان الذين تحولت عيونهم التي كانت ترمق زرقة البحر إلى حلبة التدريب، وما أن انتبه "دانييل" حتى توقف ليعود إلى مكانه وإنجيله. أما أنا، فقد عدت إلى تأمل راكبي الخيل وقد دفعني الفضول إلى الاقتراب شيئا فشيئا إلى أن صرت وجها لوجه لصاحب الأحصنة الذي حياني وعرض علي الذهاب لجولة على الحصان مقابل خمسة دينار للساعة وقد أعلن استعداده لتخفيض دينار "لأخيه المغربي" كما قال. التفتت إلى مكان جلوس "دانييل" الذي كان يراقبني وقد حرك رأسه يشجعني على التجربة. لم يسبق لي أن أخذت فرسا في جولة كهذه ولكني أقنعت نفسي أن لكل شيء بداية؛ ولأن أسقطني الحصان على الرمال اليوم خيرا أن يفعلها وقد تقدمت بي الأيام وصار في سقوطي خطر محقق. امتطيت صهوة الجواد الذي جعل جسدي يهتز بينما بدأ الخبيث يرفع إيقاع سرعته وكأنه كان يدرك عدم اتقاني ركوب الخيل. كابرت وعاندت وأقسمت أن لا يسقطني فكان لي ما أردت، لكن تقدم الحصان تسبب في إسقاط قبعة "الكاوبوي" التي كانت تعتلي هامتي. أوقفت الحصان، ونزلت إلى مكان سقوط القبعة وقد أحكمت يدي إمساك اللجام مخافة أن افقده؛ بينما دليت يدي اليسرى نحو القبعة؛ فرفعتها بسرعة في وجه الحصان الذي ظن أني أريد ضربه؛ فخاف وقرر مهاجمتي ورفع قوائمه الأمامية في وجهي؛ فكاد أن يرفسني لولا أني تفاديته ففقدت التوازن وسقطت على الرمال. إغتنم الفرس الخبيث إفلات العنان من يدي فأطلق قوائمه للريح فتبعته جريا إلى أن توارى عن الأنظار.

المكان مقفر وموحش؛ لا حياة تدب في أرجائه؛ في أعلى الشاطئ نباتات شوكية متوحشة لكأني وقعت في جزيرة الجن. اجتمع علي همان : "هم التيه وهم فقدان الفرس، وما سوف أقول لصاحبه الذي ينتظر عودتي؟ ترى هل سيشكونني إلى الشرطة ليطالبني بثمنه؟ هل افر إلى الفندق أم أعود لمواجهة قدري؟". وجدت نفسي على الإسفلت وقد تراءت لي سيارة أجرة فاستوقفتها وسألت سائقها أن يأخذني إلى حيت تركت أصدقائي. كانت رجلاي تتسارعان وقد قررت أن أهاجم وألوم صاحب الحصان على فرسه المتوحش الذي أسقطني دون سبب؛ إلا أن دهشتي كانت كبيرة عندما وجدت أن الحصان اللعين قد عاد إلى صاحبه؛ الذي قال إنه كان على وشك أن يتحرك بحثا عني. أما مجموعة القطار، فقد كانت قصة الحصان زادا للضحك لباقي ما جاء به اليوم من دقائق وسويعات.

في صباح اليوم التالي، كان العزم قد عقد على زيارة قرية "قلالة" ومتحفها الشهير الذي يغوص في أعماق التاريخ حاملا آثارا للإغريق والرومان والفينيقيين وما تلاهم من حضارات وثقافات متنوعة. استغرقت زيارة المتحف زهاء ساعتين استعرضنا خلالها تاريخ الفلكلور المحلي والأعراس التقليدية التي تقام على امتداد سبعة أيام تتخللها معروضات متنوعة لألبسة وأزياء متنوعة وأكلات تقليدية تتشابه إلى حد كبير مع تلك الموجودة في المغرب. بعد مغادرة المتحف، أحسست بنفس خاص يكتسح فؤادي وينعش أفكاري من أثر تغذية الروح بالاطلاع على ثقافات الآخرين والاستفادة من تجاربهم؛ وهي أشياء تكاد تغيب عن سويعاتنا اليومية؛ بحيث نقضي وقتا طويلا في تغذية أجسادنا والاهتمام برونق مظهرنا بينما يكاد السعي إلى تنمية العقول وتثقيفها منعدما؛ هجر الناس القراءة، وتقلصت أعداد مرتادي المسارح، أما المتاحف فلا يزورها إلا السياح.

الأوقات الجميلة تمضي بسرعة لدرجة تجعل نسيانها أمرا واردا؛ بينما تظل التجارب الصعبة راسخة في الذاكرة ولربما كان الألم الذي نتج عنها سبب أساسي في ذلك. انقضى الأسبوع الذي جمعنا في جزيرة الأحلام وتفرقت الوجهات بعد أن صارت بيننا محبة وأخوة، وأصبح فراقنا يحز في القلب ويدمع المقل. فيما قرر الثنائي الكرواتي الإقفال نحو كرواتيا، كان دانيال قد عقد العزم على زيارة العائلة في غازي عنتاب بتركيا؛ وقد حجزا تذاكر الرحلات من وكالة أسفار بجربة. كان دانيال قد عرض علي مرافقته إلى ستوكهولم بدل السعي وراء الحلم الاسترالي بعيد المسافة والمنال؛ وقد استحسنت الفكرة خاصة بعد الوصف الرائع الذي أعطاه للمزايا التي يتيحها بلده ناهيك عن المسكن والمأكل المجاني الذي وعد بتوفيره. كان في مخططه أن يعرج على إحدى جزر كريت تسمى "رودوس" ،لذلك فقد تواعدنا باللقاء في فندق يسمى "زيفيروس" بعد أسبوع لننطلق نجو بلاد "الفايكينج" .

كان مطار تونس قرطاج، مسرحا لتوديع أصدقاء القطار بالعناق والدموع بعد تجربة غنية بالأحداث والعلاقات الإنسانية الصادقة. ركب كل طائرته بينما تعذر علي الطيران نحو أثينا بسبب إضراب لمضيفي وربابنة الخطوط اليونانية؛ سيكون بإمكاني المغادرة على الخطوط التونسية بعد أربع وعشرين ساعة. لجأت إلى الفندق الذي سبق أن أقمنا به إلا أنه تعذر العثور على غرفة شاغرة؛ حينها أرشدني صاحب الفندق إلى نزل رخيص في أطراف المدينة. المكان عبارة عن "بنسيون" صاحبه متقاعد من الجيش التونسي يقوم وولديه على خدمة مرتاديه. في الطابق الأول، ثلاثة غرف ملتصقة يبعضها تقود إلى ممر ينتهي إلى "دوش" مشترك بين جميع نزلاء الطابق؛ أما الأتاث فمجموعة "موبيليا" قديمة متهالكة وقد ذكرتني بحامة مولاي يعقوب ومنازلها المعروضة للكراء. لم يكن في الأمر ما يثير السخط ففي نهاية الأمر سأكون قد اقتصدت بضعة دنانير.

على بعد امتاز، تقبع "مغازة" لبيع المواد الغذائية حيث اقتنيت قنينة حليب طازج وعلبة جبنة وبعض المرطبات؛ ثم اتخذت مقعدا على طاولة في هامش الغرفة، وفرشت ما تحصلت عليه من محل البقالة؛ لكنني تفا جئت بأن الجبنة بها سواد مريب فشممتها فإذا برائحتها آسنة. ثارت ثائرتي، فحملتما قاصدا محل البقالة وكان مكتظا بالزبائن؛ لم انتظر أن يحين دوري فصرخت في البائع الذي قال إن الجبنة مخمرة طبيعيا وهي تؤكل على هذا الأساس. ثم صاح قائلا: "لماذا تشتري سلعة لا تعرفها"؛ حينها التفت الي زبناء المحل فأحسست بالخجل ينتابني فأقفلت عائدا إلى غرفتي.

عند منتصف الليل، استيقظت على صراخ وعويل؛ كان الطابق الأول يقطنه إلى جانبي أربعيني ليبي وثلاثينية من الجزائر؛ فاستغل الليبي خروج الجزائرية من الحمام وعرض عليها المال ليستضيفها في غرفته فشرعت في الصراخ وهي تمسك بعنق مراودها تكاد تخنقه. ثار الجندي المتقاعد في وجه الليبي وانقض عليه كالفهد وسار يطعم جسمه باللكمات ثم أسقطه أرضا وكاد أن يخنقه لولا أن تدخلت وفصلت بينهما؛ بينما لم تنفع توسلات الليبي ولا توسطي في إقناع صاحب النزل بالعدول عن طرده في ساعة متأخرة.

مطار تونس قرطاج يعج بالمسافرين على اختلاف أجناسهم وأعمارهم؛ منهم من يستقبل وافدا؛ ومن يترقب الترخيص له بولوج صالات المغادرة؛ بعد أن تكون أمتعته قد اتخذت طريقها بين بنات جلدها نحو بطن الطائرة؛ أما أنا، فكان علي أن استفسر عن كل شئ حتى لا اترك للارتجال مجالا؛ وهذه صفة اكتسبتها من مجموعة القطار؛ كما أني في أول تجربة طيران وعلي إتباع مجموعة من التعليمات والالتزام بها؛ وبذلك مرت عمليات شحن الأمتعة والعبور نحو المنطقة الحرة بسلاسة؛ ليتخذ كل واحد مقعدا في صالة الإركاب في انتظار وصول الحافلة التي ستقلنا إلى جوف الطائرة . لطالما سمعت أن ركوب الطائرة لأول مرة يولد إحساسا بالارتباك وشعورا بالخوف وخصوصا عند الإقلاع أو الهبوط؛ وقد يسبب ذلك عند البعض ارتفاعا في الضغط ؛ لكن هواجس عدم التمكن من تخطي رجال الجمارك اليونانيين الذين يستجوبونك ولهم أن يقبلوا عبورك أو يعيدوك من حيث أتيت. كان "دانييل" قد أشار علي بأن تكون إجاباتي تتمحور حول شاطئ "رودوس" ورماله الذهبية حتى يقتنع موظف الجمرك بأني قادم للسياحة ليس إلا. خلف مقعدي جلس شاب يبدوا أنه تخطى العشرين بسنوات قليلة، كان قد وضع على رأسه سماعات كبيرة كست أذنيه وصار يردد بصوت مرتفع أغنية "العيون عينيا" لمجموعة ناس الغيوان دون ان يدرك مدى اختراقه جدار الصمت الذي عم للحظات، استدرت ناحيته متسائلا : "مغربي ؟" فأومأ بالإيجاب مردفا: "ديما ماس"؛ وقد فاحت منه رائحة خفيفة لمشروب الويسكي؛ كان قد طلب من المضيف مده ببضعة كؤوس منه. كان الفتى الفاسي "مراد" مندفعا لحد التهور وقد أثار سلوكه النشيط بعض ركاب الطائرة ممن حوله؛ فطلبوا من المضيف تنبيهه لخفض صوته وكذلك فعل؛ إلى أن أخذه النوم إلى خلده.

في مطار أثينا، وقف المسافرون في صف طويل وكان الموظفون يستجوبون كل واحد على حدا دون أن يستغرق ذلك وقتا طويلا. راعني منظر مراد الفاسي وقد سيق رفقة شبان تونسيين إلى صالة المغادرة بعد أن رفض موظف الجمارك التأشير بالإيجاب على دخولهم التراب اليوناني؛ وقد خفت أن يكون لي مكان إلى جانبهم في طائرة العودة؛ لكن كلمات دانييل حول الظهور مظهر الواثق بنفسه أعادت الاطمئنان إلى خلجي؛ وما لبث أن جاء دوري فوقفت أمام الموظف الذي صار يقلب أوراق جوازي؛ ثم أمرني بنزع نظارتي الشمسية السوداء؛ وأطال النظر في عيني قبل أن يسأل عن وجهتي وسبب زيارتي والمدة التي أنوي قضاءها في اليونان؛ ثم ختم أسئلته بطلب معرفة كم أتحوز من مال وبعدها قام بالتأشير على الجواز مردفا بعبارة "ويلكام" مفردة الترحيب الانجليزية.

توجهت صوب مكتب الرحلات لشركة "اولامبيك آير" المتخصصة في الرحلات الداخلية؛ لاقتناء تذكرة السفر نحو جزيرة "رودوس" إلا أني فوجئت بأن موظفي الطيران كانوا لا يزالون في إضراب؛ مما سأضطر معه إلى تأجيل السفر زهاء ثمانية وأربعين ساعة.

خارج المطار تقبع سلسلة من سيارات الأجرة؛ وقد عرض عليه احد السائقين أن يقلني إلى فندق يطل على المطار مقابل مبلغ خمسين "دراخما" (ما يعادل مائة درهم ). المواصلات بأثينا باهظة الثمن على غرار الفنادق التي لم انجح في العثور على سعر مبيت دون الخمسمائة دراخما.

استقر بي الأمر في فندق "بسانيا" المطل على مطار أثينا الدولي والمؤلف من سبعة طوابق تعلوها مقهى كافيتيريا ومسبح. في أحد غرف الطابق الرابع، وضعت أمتعتي وتمددت على السرير للحظات كانت عيناي تتفحصان المكان الذي توسطته طاولة وضع على أديمها تلفاز متوسط الحجم تقابله أريكة لشخص واحد أمامها طاولة قصيرة؛ في الجانب الآخر نافدة بشرفة مطلة على الشارع في أعلاها ثبت جهاز التكييف؛ و بجانب السرير ثلاجة رمادية صغيرة قد أثارني وجودها داخل الغرفة وصرت أتطلع عما يمكن أن تغلق أبوابها عليه. دون أن أبارح السرير، تمددت يدي إلى اليسار لفتح الثلاجة فإذا هي تضم درجا للتجميد في أعلاها وبداخله وجبتا "بيتزا" مجمدة؛ أما باقي الثلاجة فقد ملأته المشروبات. بعد أن أخذت قسطا من الراحة، أخرجت الوجبة من الثلاجة وقصدت السطح مستعملا المصعد. على السطح فضاء ترفيهي فسيح ينفتح على منظر المدينة التاريخية بأحيائها العتيقة ومنشآتها العمرانية والسياحية الممتدة على مساحات لا تحصيها العين. لا غرابة في ذلك ما دامت البلاد تعتمد أساسا على المنتوج السياحي وتحاول تطويره ضمانا لاستمرارية انتعاشه؛ في احد أركان السطح خصصت كراسي بلاستكية و صنابير علوية للاستحمام بالماء الصالح للشرب بعد أن يكون السائح قد فرغ من السباحة في مسبح السطح. بعد أن صار وجبة البيتزا جاهزة، اتخذت مكانا على طاولة كان النادل قد وضعها عليها و بجانبي جلس رجل على طاولة منفردة وقد توسط وجهه شارب خفيف؛ نظر الي وقال "شهية طيبة" فدعوته للأكل ولكنه كان يستمتع بجعته التي رافقتها سيجارة رسخت مكانها بين سبابته وإبهامه؛ شرعت في تناول أجزاء البيتزا الواحد تلو الآخر وانأ ارمق منظرا غريبا؛ كانت هناك مجموعة قد التصقت بالشرفة التي تطل على المطار تتابع أقلاع وهبوط الطائرات بالتقاط متسلسل لصور متتالية مستغلة مرور الطائرات بمحاذاة السطح؛ وكانت المجموعة وكأن أعضائها يتناوبون فيستريح قسم منهم ويصور قسم آخر. عندما فرغت من وجبتي، كانت سيجارة اليوناني "زيوس" تعيش لحظاتها الأخيرة بينما لا تزال قنينة الجعة التي يشربها في ريعان حمولتها وقد عرض علي إحدى سجائره الأمريكية ومشروب الجعة لكني شكرته ولما أصر طلبت من النادل مشروب كوكاكولا. بعد حديث تعريفي مطول، اخبرني زيوس أنه يشتغل في سلك الشرطة وانه يقضي يومه في الفندق تأمينا لسلامة المطار والطائرات ليحل محله زميل له في المساء؛ عندها، سألته عن سبب الغباء الذي تبدو عليه مجموعة مصوري الطائرات التي تتناوب على التصوير فابتسم قائلا :

" إنهم كمن يحملا صنارة ويتوقع صيدا ثمينا لأجله يتناوبون بصبر"

سألته: "كيف ذلك ؟"

فقال: "يعلمون ان جل حوادث الطيران تكون إما عند الإقلاع أو الهبوط"

ثم أضاف : "تمكن مصور من بيع صور الانفجار الذي تعرضت له طائرة مباشرة بعد الإقلاع بمبلغ مليون دولار لوكالة أنباء".

لم يكن الأمر يحتاج للمزيد من الإيضاح فقد أصبح عندي تفسير منطقي لما يفعله هؤلاء القابضون على زناد آلات التصوير فهناك من يستفيد من أحزان الآخرين متسلقا على درجات سلالمها ليدرك منفعة مادية صرفة أو كما في القول المأثور :" مصائب قوم عند قوم فوائد".

في زاوية أخرى، تحلق حوالي عشرون شابا من الجنسين حول طاولة "بيلياردو" ويبدو من ملامحهم الشقراء إنهم أجانب لا تكاد تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة؛ وقد راقني ما كانت الفتيات عليه من حسن وجمال بل لم يسبق أن وقعت عيناي على فتيات بذلك الحسن. وهو يوقد سيجارة جديدة، بدأ زيوس الحديث بقوله :

"إنهم مجموعة تلاميذ من بولونيا حلوا بأثينا منذ أربعة أيام في رحلة ممولة من إدارة مدرستهم؛ نظرا لتفوقهم وإنهم سيغادرون بعد يومين إلى سالونيكا ومنها الى ميكونوس".

راعتني دقة معلومات ضابط الاستخبارات الذي كان تقدمه في الثمالة عاملا أساسيا في تسريبها. فكرت في مهاتفة والدي وقد اثأر انتباهي مخدع الهاتف وطريقة الأداء؛ بحيث انك بمجرد ربط الخط بوجهة الاتصال، يصبح بإمكانك الاطلاع على مبلغ المكالمة الذي يستمر في التغير نحو الارتفاع مع استمرارها؛ وبذلك يمكنك اتخاذ القرار بالاستمرار أو التوقف؛ ومع انتهاء المكالة تؤدي الثمن الذي ساهمت في تحديده.

في اليوم التالي، استيقظت في وقت متأخر؛ ثم توجهت إلى السطح حيث تناولت وجبة الإفطار وتجاذبت أطراف الحديث مع زيوس الذي لا تكاد سيجارة تفارق فمه حثي تحل محلها أخرى؛ مع أنه يشتغل في سلك الشرطة إلا أن الطيبوبة وصفاء السريرة يزينان أخلاقه. كان يظن أني مسافر إلى جربة للسياحة، لذلك حرص على تزويدي كتيب يضم معلومات حول الأماكن التي يعتادها السياح وأسعار الخدمات وأماكن الترفيه والمطاعم ووسائل المواصلات .كان لاجتياح الجيش العراقي للكويت بالغ تأثير على السياحة العالمية و مسببا لاضطراب أسعار البترول في الدول المستوردة؛ وكان لليونان نصيب في هذه الزيادة ليخرج المهنيون وغيرهم إلى الشوارع بسياراتهم؛ التي ملأت وسط المدينة وتسببت في إغلاق الشوارع الرئيسية والتي تشكل عصب الحياة لسكان العاصمة. الناس يقضون يومهم داخل سياراتهم بينما تتكفل عائلاتهم بتزويدهم بالمأكل والمشرب؛ وقد قرروا جعل الإضراب مفتوحا ليتدرج نحو باقي الأقاليم؛ حتى تراجع الدولة الزيادات التي فرضتها؛ بل رفعوا سقف المطالب ليشمل مراجعة السعر القديم وإقالة وزير الطاقة. لم يكن الأمر ليثير اهتمامي لولا ارتباطي بالذهاب إلى المطار في الغد عند الواحدة بعد الزوال وانخراط سيارات الأجرة في الإضراب. أصابتني الحيرة كيف سيمكنني الذهاب إلى المطار دون سيارة أجرة تقلني إلا أن الضابط زيوس بدد قلقي بعد أن هاتف صديقته لتقلني في الغد إلى المطار ودون مقابل أيضا.

كان عمال المطار قد استأنفوا العمل دون نزع الشارة الحمراء التي وضعوها في نفس المكان الذي يضعها فيه عميد فريق لكرة القدم. الرحلات الداخلية لا تخضع لنفس معايير الأمان التي تخضع لها الرحلات الدولية مما جعل الإجراءات تمر بسلاسة مكنتنا من الوصول إلى ضالتنا دون ادني عقبات. لم تكن عدوى الإضراب قد وصلت بعد إلى رودوس، لذلك لم أجد صعوبة في إدراك فندق زيفيروس الذي سبق أن هاتفت موظف استقباله لحجز غرفة. بعد اخذ قسط من الراحة، خرجت للتجول حيث انتهى بي الأمر في معلمة على شكل رأس أسد وقد فتح فاه لتنبعث منه أصوات موسيقى صاخبة وكأنك في مدرجات مسرح روماني، يستوجب عليك صعود أدراجه حتى تدرك فم الأسد الذي يقود إلى الجمجمة ولم تكن سوى نادي ليلي ومرقص. في الداخل تكاد الإضاءة المرتعشة وألوانها البنفسجية تمنعك من تبين الحاضرين الذين يكاد بعضهم يلتصق بالآخر وتسبب للمتمعن فيها آلام الرأس. لم أستطع الصمود كثيرا لأقفل عائدا إلى الفندق وقد نال مني العطش نتيجة المسافة التي قطعتها مشيا. في الطريق، وجدت مقهى تعج بالشباب الذين تراوحت أعمارهم بين الرابعة عشرة و الثامنة عشرة سنة؛ توجهت إلى حيث النادل فإذا به غير موجود؛ وقد لاحظ احد الشباب دخولي فبادرني بالحديث باليونانية؛ ثم تحول إلى الانجليزية بعدما أخبرته أني سائح يبحث عن ما يروي عطشه؛ فمدني بكوكتيل فواكه بعد أن قال إنهم يحتفلون بعيد ميلاد أحدهم ولذلك فقد اكتروا "الكافي" وأنه ليس علي أن ادفع مقابل ما رويت به عطشي.

مضت يومان على وصولي إلى رودوس وقد أصابني إحساس بالملل لأني لا أتقن دور السائح؛ فوجودي في هذه المدينة لمقابلة دانييل ليس إلا؛ لذلك كنت اقضي معظم الوقت في الفندق إما متتبعا للتلفاز أو متمددا في الغرفة أو اجلس بجانب الكورنيش القريب أراقب كبار السن من الصيادين الذين يبددون سويعات شيخوختهم على تخوم المياه المالحة؛ وقد امسك كل منهم بصنارته يشدها أحيانا إليه ويرخي حبالها أحيانا أخرى.

مرت يومان على الموعد الذي كان دانييل قد ضربه لي في فندق زيفيروس دون أن يوقع حضوره بينما استبد القلق والحزن وأشياء أخرى بمشاعري. كنت كمن راهن بكل ما يملكه على حصان توقع أن يكون له مفتاحا لكل الأبواب المغلقة فإذا به يصير سجانا لأحلامه يتلذذ بتعذيبها بمنتهى السادية.

هكذا، وبعد أن نفذ مخزون الصبر على الانتظار، قررت العودة إلى بلدي؛ في أثينا، كان الإضراب سببا في تأخر رحلة الخطوط التونسية لساعات كما هو الشأن بالنسبة لرحلات أخرى؛ الأعداد الغفيرة التي ملأت المطار كسرت الصمت الذي يعم في الخارج في ساعات الليل المتقدمة تلك؛ بعض المسافرين مستلقون على الأرض يتوسدون أمتعتهم بينما أثار انتباهي رجل كان قد لف جسده بغطاء ومفرش في آن واحد يستعمله الرحالة ومتسلقو الجبال وقد صار يغط في نومه؛ والى جانبه وضع جهاز راديو-كاسيت من الحجم الكبير وقد دارت عجلات شريطه لتملئ المكان صخبا أحدثه نغمات موسيقى "الكوينز". وفي غفلة من الحضور الذين كان اغلبهم يغالب النوم؛ تقدم شاب واخذ الجهاز الموسيقي وما كاد يخطو بضعة خطوات حتى كان صاحبنا النائم قد اقتلع الراديو كاسيت من يده ودون أن ينطق بأم شفاه أو يحاسبه على السرقة؛ عاد لوضعه في مكانه ثم تسلل إلى داخل فراشه بينما رحل الشاب "السارق" في هدوء ليتوارى بين الجموع. أدهشني رد فعل الرجل المستلقي وبرودة دمه وتذكرت السارق الذي تفاجئه ربة الدار يسرق الأغطية ليصبح كيس تدريب رملي للكم والرفس. لابد أن صاحبنا اختار الاستسلام إلى ملكوت النوم بدل تضييع الوقت في تسليم الفتى للشرطة ولعله تفطن ان حبه للموسيقى دفعه الى سرقة جهاز يتمناه من وقعت عيناه عليه. بعد الوصول إلى مطار تونس قرطاج، أعلمت أن علي الانتظار أربعة وعشرون ساعة قبل الرحيل إلى الدار البيضاء جوا؛ فقصدت محطة القطار وهناك اخبرني موظف كشك التذاكر أن مغربي "بن عمك؛ حسب قوله" ينام في المحطة ولا يجد من يعينه للعودة إلى المغرب. طلبت لقائه فإذا هو فتى في الخامسة والعشرين ينحدر من مراكش وقد نفذ ماله بعد أن طرد من ليبيا ليعيش حياة التشرد. كان الشاب مصطفى -ابن حي الداوديات الشهير- يقضي وقته في المحطة يترقب المساعدة من العمال والموظفين دون أن يتسولها وقد أسعدني انشراحه وأنا أمده بتذكرة القطار التي لم تتجاوز خمسة وأربعين دينارا. كانت حكايات الفتى البهجاوي لا تنتهي وقد كانت للرحلة الطويلة زادا ومنشطا. عند بلوغ مدينة القنيطرة، غادر مصطفى القطار نحو آخر قادم من فاس في اتجاه مراكش بينما ستكون الدار البيضاء المسافرين وجهة قطارنا النهائية.

عدت الى البيت وقد سر والداي لعودتي ولفشلي في تحقيق مبتغاي؛ أما أنا فلا تزال خيانة دانييل تقض مضجعي وتحرك آلامي. ذات يوم، أخبرتني أختي أن ساعي البريد قد سأل عني تاركا رسالة وقد وقعت استلامها؛ كان مصدرها مملكة السويد.

بين سطور الرسالة قصة ما حدث لدانييل بعدما اعتقله رجال الجمارك في مطار اسطنبول وسلموه للحاكم العسكري لمنطقة "غازي عنتاب" الذي واجهه بالتهرب من التجنيد العسكري الإجباري؛ وتم إيداعه السجن العسكري لقضاء عقوبة عام حبسا نافذا. كان دانييل مستقرا في السويد لذلك لم يكن على علم بقانون التجنيد الإجباري كما أنه قال إن "إيمانه لا يسمح له بحمل السلاح" وقد جاء تدخل احد أبناء عمومة دانييل المقربين من مراكز القرار ليلغي المتابعة ويتمكن دانييل من الخروج من عنق الزجاجة؛ وعندما وصل إلى فندق زيفيروس كنت قد وصلت إلى مدينة الدار البيضاء.



   نشر في 06 مارس 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا