قهوة بنكهة السياسة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

قهوة بنكهة السياسة

  نشر في 16 ماي 2015 .

   

قهوة بنكهة السياسة

يكاد لا يخلو اليوم أي شارع في العالم من وجود لافتات تشير إلى وجود مقهى هنا أو تدعو إلى الدخول واستنشاق رائحة القهوة قبل ارتشافها. وإنْ تعددت طرق إعداد القهوة بتنوع هوياتها من عربية إلى تركية ومن أوروبية إلى الأميركية، وإن أضيف إليها الحليب أو الشوكولاتة أو التمر أو أي شيء آخر، تبقى القهوة قهوةً، وقد أصبحت لها علامات عالمية ونقابات أو جماعات ترعاها. وهي بين البشر صباحاً ومساء، في الأرض وفي السماء تصاحب اللقاءات والزوار وتدور على أطراف الحديث كما أنها تلازم قراء الصحف والمجلات والكتب، ومنهم من يرى فيها الحياة بعد النوم...

والقهوة تحمل عندي كما عند غيري العديد من الحوادث والطُرف والمؤشرات السياسية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية في السماء كما على الأرض. وبما أنني ابتليت بالتحديق والتحليل فإنني أصحب القراء في قهوتي من الطائرة إلى "الكافيه" لنكتشف بعض القضايا التي تطاير شررها عبر نكهة القهوة من مجتمعات مختلفة وعقائد متضاربة أخذ بعضها يبث برائحة تُمازج عبير القهوة.

ما إن تزاحمت الأقدام لدخول الطائرة التي سوف تنقلنا من بلد خليجي عربي إلى بلد أوروبي، حتى بدأ جسمي ينازعني بدأت في جسمي مؤشرات تلزمني بتناول القهوة على الفور. وعندما حلقت بنا الطائرة كان أول طلب لي هو القهوة، كما كانت هي الطلب الثاني أيضاً، وعندما كنت أرتشف فنجاني الثاني كان بجواري شاب وشابة، بدا أنهما حديثي عهد بالزواج، حيث كانا كثيري المزاحِ، وبينما كنت أرتشف القهوة كان آخر بجواري يشنف أذني برشفاته. وفي غمرة استمتاعي بالقهوة بدأت حالة من التوتر تسود داخل الطائرة على إثر سماع صوت غير عادي، فسارعت مضيفة لاستجلاء الأمر، فإذا بها تقف على حقيبة تترنح في أحد رفوف الطائرة، فأخَذَت تسأل عن صاحبها، وتحوَّل التوتر إلى خوف لغياب أحد يطالب بها، وقد استحضر الجميع أحداث الثلاثاء الأسود التي ما زالت عالقة في الأذهان، وانقلب الخوف إلى رعب بعد أن جابت المضيفة الطائرة بحثاً عمن يكون صاحبها الذي لم تجد له أثراً. ولا أنسى ما حييت ذلك الصوت المتقطع بانضباط للحقيبة حيث يشبه أصوات المتفجرات في أفلام هوليوود، وقد خاف الجميع! فزع طاقم الطائرة والتمَّ مع المسافرين حول الحقيبة ورنينها الواقع في القلوب قبل العقول، تساءل الجميع ماذا يفعل بالحقيبة؟ وتداول الكل أفكاراً كثيرة، يجب التخلص منها فوراً! يجب فتحها! لا لا، يجب التخلص منها فوراً!.. فجأة خرجت امرأة من حمام الطائرة، تقول هذه حقيبتي، أنا آسفة، لا تخافوا... بهذه الكلمات أعادت أنفاس الركاب، وتبسمت على استحياء قائلةً إن هذا الصوت صوت منبه في الحقيبة، ولم يستطع أحد الرد، فالمهم عندهم أنهم اطمأنوا ألا خطر يتهددهم، فكفَّت الألسن.. إلا لسان إحدى المضيفات الذي كان مدوياًّ: "إنه صوت مرعب، وهذا الرف ليس لكِ أولم تسمعي أصواتنا وأنت في حمامك السعيد..! فأجابت المرأة إنها لم تنتبه إلى رقم مقعدها الصحيح فوضعت الحقيبة ثم غيرت المقعد لتجلس في مؤخرة الطائرة، وأنها سمعت الأصوات وصوت حقيبتها إلا أن مغصا معوياً حاداً ألمَّ بها!. أما أنا لم أشعر بطعم الفنجان الثاني أبداً.. بينما أخذ صاحبي يضحك ملء شدقيه بعد أن كانت أسنانه تصطك من الرعب!

وعندما حطت الطائرة بسلام، كنا نرغب في الخروج من المطار بسرعة ولكن استمر بقاؤنا في المطار نصف وقت الرحلة، وبعدها ركبنا سيارة أجرة، وما إن نظر السائق إلى وجوهنا حتى قال، أترغبون في تناول القهوة، وكانت الموافقة منا على الفور...

وهذا الفنجان، بعد الوصول، لم يكن أحسن حالاً من سابقه في الطائرة، حيث كنا في مقهى أو "كافيه"، وما إن بدأنا في الانتعاش برائحة القهوة حتى سمعنا رجلا يسأل بتهكم شخصاً عربي الملامح من أنت؟ فرد عليه أنه من بلد خليجي، فرد من أنتم!... وكان هذا الشخص متعصباً أعمى لعِرقه الأبيض وحضارته الأوروبية كما يبدو، وبدا لنا أنه يرغب في النيل من كرامة الآخر... فتدخلْتُ قائلاً له، اجلس لأخبرك، ففعل وهو يحدق فيّ وفي صاحبي... وحدثتهُ من نكون وعن تاريخنا وديننا وحضارتنا وقيمنا بأسلوب مختصر ومهذب.. كما ذكرت له تداخل الحضارات وكم هي جميلة حلقات الاتصال والتقاطع بين الحضارات والأمم... ولم يكن منه إلا أن زاد في تهجمهِ علينا في مسائل الإرهاب والمرأة ولحم الخنزير وغيرها.. وقال وهو يهم بالانصراف: نحن الحضارة والتاريخ. وعند كلمة التاريخ خرج صاحبي عن صوابه تاركاً القهوة مع ما بقي من قطعة الكرواسون، وسأله ما هذا؟ مشيراً إلى الكرواسون. فأجابه المتعصب إنه الكرواسون الفرنسي الذي غزا العالم. فقال له صاحبي: ابحث عن اسمهِ وكيف خرج سوف ترى إن كان لنا تاريخ أم لا.. غادَرْنا المكان متوجهَين إلى الفندق بعد فنجان قهوة صاحَبهُ تشابك عرقي وحضاري سيئ للغاية. ولكنني استرسلت مع صاحبي في مناقشة الكيفية التي ينظر بها الأوروبي إلى الشرق، وعن وفرة حلقات التواصل والاتصال بين الأفراد العاديين.

وفي أول صباح لنا كانت أقدامنا تشتاق للحركة والتنزه في المدينة، غير أننا كالعادة رأينا أنفسنا في "كافيه" نقرأ الصحف المختلفة ونرتشف القهوة ونُعِد برنامج الرحلة من جديد. كان المكان مميزاً وراقياً، فهناك من يتحاور وهناك من يكتب وهناك من لا تتجاوز عينهُ طاولتَهُ، وفجأة دار عراك بين عربٍ حول نظرة كل منهما إلى علي وعمر رضي الله عنهما، وكان الصوت العالي يتطاول بعضهُ على بعض بجملٍ كثيرة غير مفهومه، لكن يمكن تمييز اسمي علي وعمر المتكررين. ووصل الأمر إلى التشابك بالأيدي، ثم قفز صاحب المحل، وهو رجل عجوز، طالباً الهدوء وإلا استدعى الشرطة. ثم ما إن هدأ طرفا الشجار حتى سألهما، هل تكمن المشكلة في عمر وعلي؟! وكظم الطرفان الغيض، وأردف العجوز: سوف أحضرهما لكي يحلا الخلاف، أو ماذا لو اِتصلتم بهما، أليس ذلك أفضل؟ فخرج شخص عن كظمهِ الغيض مستهزئا بصاحب المحل:"إنهما من الأموات منذ أكثر من ألف سنة، فتعجب العجوز وقال: أكثر من ألف سنة... أكثر من ألف سنة! ثم ضحك قائلاً: أنتم مجانين، لن أتصل بالشرطة بل بالمستشفى.

كانت هذه الحادثة غريبة وجميلة تؤكد أن تاريخنا ما زال في جدال وصراع... وعلى إثر هذه الحادثة، أتى شخص يشتكي لصاحب المحل بأن المشاجرة تسببت في سكبّ القهوة على أوراق كان يخطها لحبيبته بخط جميل وبفن وبكلمات جميلة، فقلت له، بعد رؤيتي للأوراق: ألا ترى أن القهوة رسمت صورة معبرة فشاركتك حبَّكَ، ألا ترى أن القهوة خلقت أطرافاً غريبة وجميلة للأوراق؟ ألا ترى هذه العين التي رسمتها القهوة المسكوبة؟! أكتب تحتها "كم هي مشتاقة لرؤياكِ عيني.. تبسَّم وقال، أنت واسع الأفق والتخيل، أجل هذه عين وهذه الخطوط الغريبة تعبر عن اشتياقي لها.. ربما لو رآها أحد لأخذ هذه الصور والخطوط وطبعها في بطاقات مخصصة لرسائل الحب.

هذه هي القهوة، كلما ارتشفتها تذكرت حوادث ومواقف صاحَبتني وصاحبت من صاحبني، ولستُ قائلاً بقدر ما أنا متسائل: لماذا كلما ارتشف البعض قهوة نظرت عيناه إلى أعلى، وكلما ارتشفها البعض الآخر حدق في الصحف، ربما لأن الأول أراد كسر النعاس والكسل والثاني أراد التجوال عبر العالم... هكذا هي القهوة، لها في كل محل حكاية، وإن كانت تعبق أكثر بنكهة السياسة.




  • حميد سعيد المنصوري
    كاتب ومحلل سياسي، حاصل على البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية، له الكثير من المقالات والدراسات المنشورة في جريدة الاتحاد الإماراتية، إلى جانب بعض المحاضرات. موظف حكومي في أبوظبي. http://www.alittihad.ae/wajhatauthor.php?AuthorID=409
   نشر في 16 ماي 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا