معذرة أيها القارئ الكريم! أحسب أنك أسأت الظن، فلست بصدد الحديث عن المتعة بمفهومها المتداول و الشائع بين الناس، إنما بصدد الحديث عن متعة من نوع آخر، فإذا كنت من طلاب المتع الجسدية، فلا تضيع وقتك في قراءة هذه الأسطر، فليس فيها ما يحقق مسعاك، وليس من بينها ما يشفي نهمك..!
إنني بصدد الحديث عن متعة العقل، حينما تُغلق عليك بابكَ، وتُعطي لنفسكَ شيئا من الخصوصية والتفرد.. تُودع عالم المادة الآسن، لتلتحق بعالم الفكر الفسيح، المترامي الأطرف... فَتسبح بين دروب الفكر و العلم؛ مع كتاب، أو مقال، أو بحث علمي، أو ربما تضعُ حزام الأمان، بعد أن حَجزتَ مقعدا مع رواية تنقلكَ إلى العوالم الممكنة و غير الممكنة، أو تسري بروحكَ، و عقلك، مع ديوان شعر قادم من أعمق الحقب الزمنية... إنها متعة لو تعلمون لا تضاهيها كل المتع المادية.
متعة ينتعش فيها العقل، و يعلو صوت الفكر، تنطلقُ في محاورة مع عقلك الذي يصبح عقلان؛ فمع الفكر ينشطر العقل، وتتناسل الأفكار ، فتصرخ فكرة من جانب العقل الشرقي، لتقاطعها فكرة أخرى من الجانب الغربي قائلة:اخرسي فلست على شيء !! ويستمر الجدال و يطول... ربما لساعات متأخرة من الليل، أو ربما لأشهر، أو ربما لسنوات، فقط أنت وعقلك في سجال؛ فبداخلك عالم من الكائنات الحية.
متعة بعدد الأسئلة المؤرقة، التي تواجهك فتبحث لها عن جواب، و يطول بحثك ..حتى تظن بأنك لن تجد لها جوابا... إلى أن يأتيك الجواب _وقد يئست_ على طبق فكري مزين بالأدلة المنطقية، و العلمية، واضعا حدا لأرقك، لكن؛ ليس حدا لمتعتك! فباب المتعة هذا يفتح لتجد بابا يغريك بمتع أكبر، فقط حاول و أفرغ الوُسع و الجهد لفتحه، فإذا فُتح على مصراعيه، دلَّكَ على باب آخر، وهكذا ..! فلستَ سوى عابر سبيل يمر بهذه الجنان... اِقتَفي أثر من ارتحل قبلكَ، و لك وعد بكل المتع .
متعة تحررك من قيد الزمان، و المكان، تدور عقارب الساعة و تدور، فتنظر إليها مستخفا كأن دورانها لا يعنيك، كأنك خارج سياق الزمن، تنظر إلى الجدران من حولك فلا ترى أي جدران، إنه عالم مفتوح.. ! تبحر في رحلة على متن سفينة البحث عن الذات، محاولا كشف من أنت؟ فتنسى من أنت ! فبحر المتعة هذا كلما ازددت فيه تعمقا ازددت تحيرا !
وها هي الذكرى تطرق ذهني، ذكرى الزيارة المحتشمة، يوم قررتُ أن أُبصر عن جُنُبٍ ما في عالم الكتاب من مُتع، ظللتُ أصارع أسبوعا على طول أيامه، مع كتيب يوصف بكتاب الجيب، وما كنتُ حينها أحسب أن نهر المتعة هذا، سيجرفني إلى محيطه المترامي، وستتقاذفني أمواجه العاتية، لكن لا تخف! فهما يكن أعِدُكَ بشرف المتعة، وقدسية ماء البحر، بأنك لن تغرق لو حققت شرط النجاة، وذاك نهج كل المبحرين "إتبع الدليل حيث يقودك" كما نحت سقراط على باب سفينته، وكما أعلنها علماء الكلام مدوية "استدل ثم اعتقد" !
امتطي صهوة جوادك، تجول في جنان الأدب، و اقطف من زهوره المتفتحة ما شئت، اشتم نسيم الربيع، داعب تلك الفراشات التي تحلق بين يديك، إنك حر! فلتتمتع كيف يحلو لك، و إن شئت بعدها امتطي صهوة كلماتك، و أطلق العنان لقلمك، واسقي تلك الزهور فإن زوارا من بعدك سيطلبون ما أنت فيه لو تتكرم!
فيا أرباب المتع هَلمُّوا...! ابحثوا لكم عن مكان بين المرتشفين شراب الخلود، بين المسافرين عبر الزمن، بين المتحررين من قيود الصورة، و زنازين التفاهة التي أحاطت ببني البشر من كل جانب، حطِّموا كل تلك القيود، و أمسكوا بمفتاح حريتكم، فقد جاء بها خبر السماء، وما نطق عن الهوى حين بلغ المبلغ "اقرأ باسم ربك".
-
عمر السطيباحث عن متنفس لقلمي