أشتري السّراب بالأوهام.. من يبيع؟
"سراب مواقع التّواصل الاجتماعي"
نشر في 26 فبراير 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
في هذا العصر الذي أُقحمت فيه شبكة الإنترنت في كافات المجالات, وسيطرت سيطرةً شبه تامّة على الحياة اليوميّة لشريحة كبيرةٍ من النّاس, عن طريق ما يعرف بالإعلام الاجتماعي أو وسائل التّواصل الاجتماعي ((Social Media, بدأت تطفوا على السّطح آفات ملازمة لهذه التقنية الحديثة, منها الاستخدام السّلبي لها من قبل البعض -والبعض هنا للأسف أغلبيةٌ في الوطن العربي-, واستنزاف الساعات الطوال أمام الشّاشات والهواتف دون فائدةٍ ترجى, أو اختيار المواقع الدنيئة التي لا تدعوا لفضيلة, ولا تنتهي عن نشر الرذائل وسفاسف الأمور.
رغم هذا تضلّ هناك شريحةٌ أخرى لا يستهان بها, ممّن روّضوا أنفسهم على استعمال هذه التقنيات وغيرها بالشّكل الأمثل, والاستفادة منها لأقصى درجةٍ ممكنة.
ومن أهمّ ميّزات هذه التّقنيات, وعيوبها, سماحها بنشر المعلومات من قبل أيّ شخص, دون التّحقّق من صحتها, وتسريب الأفكار, دون الأخذ بمدى جدواها, ممّا يتسبّب بنشر الأكاذيب والأوهام, والإشاعات التي لا أصل لها. هذه المنشورات هي ما أسمّيه في هذا المقال "سراب مواقع التّواصل الإجتماعي", فهي أشبه ما تكون بالسّراب, تلتمع من بعيد, وتسحر العقول بكلماتها ولغتها وجوهرها, الذي عادةً ما يكون على هوى الشّباب الذي تنتشر بينه هذه الأخبار المغلوطة, ولكن عند الاقتراب منه والبحث عن أصله, تكتشف أنّك أمام لا شيء سوى أوهام. لعلّ أبرز الأمثلة لهذا السّراب هو ما يتمّ نشره على الفيس بوك وتويتر, أو غيرها من وسائل التّواصل, عن قصص مغلوطة لشخصيّات ناجحة, بُعثت من قلب الفشل, بعد أن كانت غارقةً في اليأس والمتاعب, فتارةً تصوّر بعض القصص أنّ العالم الفلاني طرد من الجامعة, وأقدم على الإنتحار أكثر من مرّة, قبل أن ينجح في حياته ويقدّم للعالم اكتشافاته, أو أنّ المخترع الفلاني عاش طفولةً بائسة, ولم يقدر على اتمام دراسته الجامعيّة, إلّا أنّه ورغم ذلك تحدّى العالم لوحده ليبهره لاحقاً بمنتجه الفريد.
وتسعى الصفحات التي تنشر مثل هذه الخيالات, إلى زيادة متابعيها, وحصد الإعجابات لا غير, على حساب عقول المتابعين والقرّاء.
لا يمكن إنكار أنّ بعض الحالات الفردية نجحت في هذا الطّريق, وعادت من حيث لا يعود الآخرون, ولكنّها تضلّ حالاتٍ فرديّة لا يعوّل عليها, لكنّ القاعدة العامّة هي أنّ النجاح لا يأتي إلّا إذا توافرت أسبابه, وهو لا يأتي إلّا في بيئةٍ معدّةٍ في الأصل لقدومه. العلّة الكبرى في هذا السّراب أنّ الكثير من الشباب العربي امتلأت عقولهم به, وانصرفت عن العمل أو التّسلّح بالمعرفة المطلوبة, سعياً وراء حدوث المعجزة, التي تصوّر لهم تلك الأخبار المختلقَة أنّها الأصل وأنّها دائمةُ الحدوث, فاستسلم السواد الأعظم للدّعة والكسل, وتركوا الأخذ بأسباب النّجاح المطلوبة, فكانت النتائج مخيّبة جداً. والمشكلة أن تداول هذه الأفكار السّرابيّة مستمرٌ وهو يخرّج دفعات جديدة من الشباب الذي ينتظرون ملعقةً من الذّهب, حتّى تتسلّل إلى أفواههم, ولعلّ بعضهم يجهد نفسه قليلاً بالحث عن وسائل الكسب السّريع على شبكة الإنترنت, أو بقراءة بعض كتب التنمية البشرية التي لا تزيد إلّا الطّين بِلّة, ولا أعني كل كتب التنمية البشرية, بل تلك التي تخرج علينا بعناوين رنّانة -مثلاً: كيف تصبح مليونيراً في ثلاثة شهور- , لو أعمل أحدهم عقله فيها لثوانٍ لما اشتراها.
وهذه بعض الأمثلة التي قدّمها لنا سراب مواقع التّواصل الاجتماعي بشكلٍ مغلوط.
-بيل غيتس:
أو ويليام هنري غيتس الثّالث, رجل الأعمال المعروف ومؤسّس امبراطوريّة مايكروسوفت, الذي تصوّره لنا مواقع التّواصل الاجتماعي على أنّه كان فاشلاً وفقيراً وطرد من الجامعة, قبل أن ينتفض ويغيّر حياته, وحياة الملايين حول العالم!
على العكس تماماً.. كان والده محامياً بارزاً, وشغلت والدته منصباً إدارياً في جامعة واشنطن وكانت عضواً بارزاً في مجالس محلّية وبنوك كبرى. حتّى جدّه كان نائباً لرئيس بنك وطني, وترأسه لفترةٍ أخرى من حياته. لم يكن مستغرباً أن يظهر الطفل بيل الذكاء والطموح وروح المنافسة في وقت مبكر، فقد تفوق على زملائه في المدرسة الإبتدائية وخاصة في الرياضيات والعلوم، وقد أدرك والداه ذكائه المبكر مما حدا بهما لإلحاقه بمدرسة "ليكسايد" الخاصة والمعروفة ببيئتها الأكاديمية المتميزة، وكان لهذا القرار الأثر البالغ على حياة بيل ومستقبله، ففي هذه المدرسة تعرف بيل على الحاسوب لأول مرة. انطلق بيل في دراسته الجامعية في واحدةٍ من أعرق الجامعات الأمريكيّة "جامعة هارفارد", ولم يطرد منها كما يشاع عنه, بل أنّه اختار ترك الجامعة لإنشاء مشروعه الخاص برفقة زميله "بول الآن".
إذاً.. لم يكن بيل غيتس فاشلاً, ولم يهبط عليه النّجاح فجأةً, بل على العكس, عمله الدؤوب والظّروف المحيطة, به كانا سرّ نجاحه, ومن يعتقد غير ذلك.. فهو يخطو نحو الفشل بثبات.
-لاري بيج وسيرجي برين:
تخبرنا المنشورات على فيس بوك أنّ الرفيقين واجها متاعب حياتيّة ودراسيّة كبيرة, أوجبت عليهما تجاهل الدّراسة, وإنشاء مشروعهما الخاص "جوجل".
إلّا أن الحقيقة مختلفة, فلم يكن الثنائيّ في دور الضّحيّة, بل على العكس, فقد انبثقت فكرة "جوجل" من مشروع الدّكتوراة لهذا الثنائي, بعد أن تفوّقا في مرحلة البكالريوس والماجستير, ولم يكن مستغرباً أن يعلوا طموحهما إلى ما هو أبعد.
العمل, والعمل بجهد.. هي الطريقة الوحيدة التي أوصلت المشروع الصغير "جوجل" إلى المكانة التي يشغلها اليوم.
مثال آخر..
شخصيّة رائدة في الإعلام العربي, وهي الآن رئيسة لمشروع إعلامي مميّز في المنطقة, تشرّفت بحضور ورشة عملٍ كانت هي احدى ضيوفها, قدّمت لنا فيها نبذة عن مسيرتها ابتداءً من تخرّجها من الجامعة, وحتى وصولها إلى ما هي عليه الآن. اخبرتنا في معرض حديثها أنّها مرّت بفترة صعبة بعد الجامعة, بلا وظيفة, وبلا هدفٍ محدّد, حتّى أنّها كانت تقطّع يومها بالنّوم طوال النّهار, وبالسّهر طوال الليل. لكن حياتها تغيّرت بعد أنّ قرّرت هي التّغيير. بدأت بالبحث عن عملٍ ولو كان بسيطاً, ولم تتجاهل أثناء حديثها أن تخبرنا أن ظروف عائلتها الاجتماعيّة مكّنتها من إيجاد عملٍ في إحدى الصحف المعروفة ببلادها. لم تتوقف عند ذلك.. ارتقت من مرتبةً عليا إلى أخرى, ومن وظيفة كبيرة إلى أخرى أكبر.
يومها اخبرتنا ناصحةً.. أنّ النجاح لا يحصل بمجرد الاستماع أو القراءة لقصص النّاجحين, بل هو خلاصةُ جهد مبذول, وعمل متقن.
في النّهاية.. علينا جميعاً الحذر من أن نكون مشترين لبضاعة السراب الكاسدة, والأوهام الفاسدة, التي تسوّقها مواقع الإعلام الاجتماعي, فالأمل الذي لا يعزّزه العمل, هو سراب لا يعوّل عليه.
-
ًصَابِر حُسَين | Saber Hussein'Dreamers can't be tamed'
التعليقات
الأمل لايعززه سوى العمل
مقال رائع