وها أنا ذا يا أمي، ها هي ذي الفوضى التي أرقتني لليالي طِوال، تتزايد مع مرور الأيام وتوالي السنين؛ أتعلمين، يا أمي، أن اليوم عيد ميلادي العشرين وأنني واثقة بأني إذا اخبرتك ستعانقينني بحنانك المعهود ، وتطلقين زغروداتك ليسمعها كل جيران الحي، وتقولين: «أتمنى ان تكبري وتحققي كل احلامك ياحلوتي » .
لكن هذه المرة لن أتمنى ذلك يا أمي فاعذريني.. كل ما أتمناه هو أن يتوقف بي الزمن هنا، لو...لو ينتزع الوقت يده من يدي ويرحل عني، وهذا كله بسبب أنني حاولت أن أكبر هذه السنة .. أن أكبر قليلا ، كنت متعطش للإكتشاف أشياء جديدة، كنت أرغب في أن أرتوي أكثر من المعرفة وأن أوسع قليلا دائرة النور، وأن أدفع عن نفسي الظلام . حاولت أن اغوص أكثر في الحقيقة، ان افهم اعتمادا على ذاتي وألا أتقبل ببلاهة ما أتلقاه وما يحاول الآخرون تمريره وحشو ذهني به. لقد بات كل شيء واضح ...والحقيقة، يا أمي، أبشع بكثير مما تتصورين.
حتى استلمت وانهدت عزيمتي ..ولما لم أعد الأقوى استدرت الى أحلامي فوجدتها كما هي، إذ من أين لها أن تبقى شامخة عنيدة وذات كبرياء ؟..فتوسدتها بحنو، فضفضت لها واخبرتها همسا بكل ما أرزح تحته من ثقل ثم رجوتها ان تبقى متمسكة بي، وألا تتركني حتى لو تركتها. كم واستني المسكينة، قائلة: الوطن، أيتها الشابة، في حاجة الى أمثالكم ..فخجلت من إخبارها بأني إنْ توقفت فلن أكون قادرة لا على التقدم إلى الأمام ولا قادرة على العودة إلى الوراء.
أمي، «يالمحاربة».. ! كم يناسبك هذا الإسم ايتها المحاربة حقا، لازلت اتذكر عندما كانت جدتي من ابي تناديك بهذا الإسم، بلكنتها الصحراوية المميزة ، انا أعلم انك ستقولين بأن علي أن اكون اقوى، لكن، يا أمي، من أين لك أن تعرفي ما يجري في خارج عالمك الصغير؟ من أين لك أن تفهمي سياساتهم وبروتوكولاتهم؟ فحياتك قد تمحورت حول المطبخ وتربية عشرة أبناء، فكنت افضل المربيات .. كم اغار منك، وأغبطك على أميّتك في بعض الاحيان، طبعا هذا ضرب من الجنون ، لكن هذا الوطن جعلنا نكره كل شيء. أليس هذا ما يريدونه فعلا؟ ألا يسعون إلى تغيير المناهج كي ينتجوا أجيالا بليدة، لا تجيد حتى تعريف نفسها والتعرف على هويتها وتكتشف قدرتها وتفجر مواهبها. إنهم يفعلون ذلك عن سبق إصرار حتى يتسنى لهم فعل ما يرغبون به في هذا الوطن...لا أريد أن أفهم؟ مع أنني أفهم رغما عني..
أمي ..حبيبتي ومحاربتي..لقد قررت الرحيل ، سآخذ ما يخصني وماهو من نصيبي في هذا الوطن الذي أصبح رهينة للجشعين. لن أحرق شهادتي وجوائزي...سآخدها لتكون الغنيمة الوحيدة الذي فزت بها من هذا الوطن الذي طالما حاولت أن أحبه .. هذا حقي وعرق جبيني وثمن سهر الليالي ...أحلام لياليّ لم تكتمل بعد...فاعذريني، يا محاربتي، فقد بدأ يهدني التعب... لقد تعبت، يا أماه، تعبت.
-
ابتسام تغزاويمحبة للفنون.رسامة .معلقة صوتية .وكاتبة حاصلة على جائزتين في فن القصة القصيرة
التعليقات
جئنا إلى الحياة ليس بارادتنا وسوف نذهب ليس بارادتنا.
مرغمون على ان نعيش ونقاوم وتدفع ضريبة الحياة .
ماذا جنينا حتى نموت مرتين فمرة نموت في الحياة ومرة نموت عند الموت . لكن الكلمات هي العزاء لنا.
هم يفسدون الحياة التي نطمح اليها .
حتى لا تكبر البراعم الرقيقه وتكون مثلما هي
لا مثلما يحجمونها .
لأنهم يخافون منها رغم رقتها وطراوة عودها.