فى وهج القمر الأحدب ، يتحرك كائن ضئيل عبر أشجار النخيل المحيطة ببحيرة تبدو مذهلة فى نقائها بحق . ويغطى تلك المخلوقة الصغيرة التى تعيش فى هذه الغابة الاستوائية الخصبة فراء خفيف ، أما طولها فلا يتجاوز قدمين . ويبدو رأسها الممتد ، بعينيها المحدقتين إلى الأمام ، غير متسق قليلا مع جسدها إلا أنها توحى بشىء من ذكاء ، ولها ساقان أطول قليلا من ذراعيها , مما يساعدها على تسلق الأشجار ، والتحرك بينها ، لتجنب المخاطر فوق الأرض .
هذه هى " إيدا " وقد فُطمت من أمها قبل أن تبلغ من العمر عامها الأول ، ولديها الآن حرية التجول والتسلق ، ويتعين عليها إعالة ذاتها . تتحرك " إيدا " وكأنها تطارد الريح ، فتدفع غصنا بقدمها ، بينما تستخدم ذيلها كالدفة لتوجيهها ، ثم تقبض على الغصن التالى بأصابعها الطويلة ، وتثبّت وضعها بأصابع قدميها التى تتساوى جميعها فى الطول تقريبا ، ولا وظيفة لها سوى الحركة . أما إبهاماها المتقابلان ، فيمكِّنانها من القبض والتنقل على هذا النحو الأنيق .
غير أنها فى الوقت الذى تبحث فيه عن وليمتها التالية ، تتجاهل " إيدا " مختلف الحشرات وكل الأهداف السهلة الأخرى ، حتى تستقر فوق ثمرة الفاكهة ، فتلف يديها حولها وتقطفها من على غصنها ، ثم تقذف بها فى فمها مستطيل الشكل . وفيما تحرك فكها بانتظام ، تمضغ " إيدا " الثمرة بأسنانها المستديرة .
ربما تكون الغابة المطيرة التى عاشت فيها " إيدا " مألوفة لنا ، إلا أنها ليست مطابقة لأى من تلك الغابات التى رأيناها . فهى منظر يستحق المشاهدة . وعلى الرغم من أن سماتها شائعة نسبيا بالنسبة إلى زمنها ، فإنها مكان لم يكن لينشأ إلا بحدوث تناغم خاص بين الأحداث ، إنها غابة دافئة ، ذات مناخ معتدل من شأنه تحفيز نمو النباتات والأشجار ، وتهيئة حياة مريحة لقاطنيها ، وأشجار النخيل بها ضاربة بجذورها الرهيبة فى الأرض ، وتشق بشواشيها عنان السماء ، فى تلك الغابة ، تسير الخيول القزمية متبخترة فوق الأرض الخضراء ، فيما تمتلئ سماء الغابة بالطيور قصيرة الأجنحة ، وأنوفها التى تشبه منقار نقار الخشب ، ولكن هناك أيضا الطيور الأرضية القوية التى يبلغ طولها ست أقدام ، وتتعذى على الثدييات . وفى هذه البيئة ، تعمد الحشرات الضخمة إلى حماية أنفسها عن طريق محاكاة أوراق الشجر ، فبحجمها الذى يماثل حجم الفأر ، وأصابعها الطويلة ، وذيولها التى يبلغ طولها ضعف طول أجسامها ، تشق فى عنف لحاء الأشجار بأصابعها المخلبية ، أملا فى العثور على يرقات الحشرات الصغيرة .
وفى وسط هذه الغابة ، تقع البحيرة التى تعد مصدرا سرمديا ساحرا للمخلوقات التى تعيش من حولها . تشكلت الحفرة التى تملؤها تلك البحيرة فى الأصل عندما ثار أحد البراكين قبل ولادة " إيدا " بآلاف السنوات .
وبمرور الوقت ، امتلأت الحفرة بتجمع المياه الجوفية المتسربة من أسفل ، ومياه الأمطار المتساقطة من السماء ، ومن ثم تكونت البحيرة . وعلى الرغم من ان هناك بعض الجداول ، فإنه لم يكن ثمة نهر ينبع منها أو يصب فيها ، مما يجعل مياه البحيرة هادئة نسبيا . وبسبب عدم وجود تيارات ، أصبحت المياه فى قاع البحيرة منفصلة عن مياه الطبقات العليا ، وغير قادرة على سحب الأكسجين من الأعلى ، ولذلك كانت الأسماك تعيش بالقرب من السطح .
وبينما تتحرك " إيدا " وسط هذه الحياة البرية الشاسعة ، تتفادى الخفافيش ، وتظل بعيدة عن متناول فكى التمساح بأسنانه المنشارية ، ومن الواضح أنها تختلف عن قريناتها التى تشبهها. فهى أكثر انخفاضا فى الأشجار مقارنة بها وربما فى البداية أنها تلعب مع الحيوانات البرية الأخرى ، لكنها حين تتحرك ، يبدو جليا أنها مترددة بمعصمها الأيمن وذراعها اليسرى .
وسط هدوء ذلك المكان الذى يشبه جنة عدن ، وتناثر المئات من الحيوانات ، وأصوات صرخات قطيع الخفافيش ، يعلو صوت عميق من قاع البحيرة ، سرعان ما يتحول إلى هدير .بيد أن الحيوانات فى تلك الغابة المحيطة غافلة عن تلك الفقاعات الغازية الكبيرة التى تنطلق من العمق من القشرة الأرضية .
وفى تلك اللحظة ، تنحنى " إيدا " لتشرب من البحيرة ، وهى تقبض على جزع نخلة بإحدى يديها ، بينما تصل إلى الماء بيدها الأخرى ، وهى تبدو غير مبالية بتلك الفوضى .
كانت الفقاعات البيضاوية ، على نحو مثالى ، تنطلق بأقصى سرعة عبر مئات الأقدام من المياه وتقتل فى طريقها ، ومن فورها تقريبا ، وكل ما يسبح فى تلك المياه ، ثم تطلق أخيرا طبقة رقيقة من الغاز الكثيف وهى تخترق السطح . ولأن الغاز أثقل من الهواء العادى ، فإنه يتعلق بالأرض ويغطى سطح البحيرة ، ويزحف عبر الأرض المنخفضة .
تستشعر " إيدا " الأبخرة كريهة الرائحة ، تماما كما تفعل كل المخلوقات . ومثلها ، تأتى " إيدا" برد فعل فورى ، إلا أن ذراعها ليس بالقوة التى تساعدها على رفع جسدها بعيدا عن حافة البحيرة ، فيكتنف الغاز أجوائها . فتلتوى " إيدا " متخذة وضع الجنين ، وتغيب عن الوعى ، فتسقط فى البحيرة مع الكائنات الاخرى الموجودة فى الجوار .
تغوص " إيدا " إلى العمق وقد فارقتها الحياة ، حتى تصل إلى الطين فى قاع البحيرة ، فتكتمل دورة الحياة الطبيعية لهذه الصغيرة بسرعة لم تكن تتخيلها . ولكن بفضل الظروف الشاذة التى تشكل زمان نفوق " إيدا " ومكانه وظروفه ، قد تترك أثرا لا يُمحى فى التاريخ ، ربما أكثر من أى كائن قد عاش أثناء ملايين السنوات منذ موت " إيدا "
بداية النهاية( تحياتى وتقديرى )