يعاني الكثير نقصا أو حرمانا في حياتهم. يأتي نتيجة غياب أحد المقربين أو فشل علاقة أو نقص موارد المعيشة وضيق ذات اليد. يأتي الحرمان معنويا, ماديا أو عاطفيا. البعض يترجم حرمانه لمشاعر سلبية وتسيطر تلك المشاعر علي كل تصرفاته بل حتي علي ملامح الوجه. تنعكس وبشكل سلبي جدا علي أدائه وعلي علاقاته وحتي علي اجتماعياته.
الانعكاس السلبي يحول دون رغبته في انجاز مهام عمله أو حتي انهاء دراسته بحجة أنه منهك عاطفيا أو يعاني الفقدان فليسل لديه من الطاقة ما يمكن توفيره لانجاز تلك المهام. يبدأ وبشكل تلقائي في رسم دائرة ضيقة لمحيط علاقاته. وتبدأ الدائرة في الانغلاق علي بعض العلاقات التي قد تكون الأهم بالنسبة له. ثم تضيق وتضيق لتشمل فقط أهم المقربين ومن ثم فقط من لا يمكن الاستغناء عنهم. ترتيب العلاقات ينحسر الي أن يتلاشي وتندثر الكثير منها فيتعلم حينها فن الاستغناء عن الاخرين و الاكتفاء بالذات.
الأسوأ من ذلك أن بعض أنواع الحرمان تسرق من قلوبهم الكثير مما يحتاجه ذويهم, تسرق حتي طيبة قلوبهم وعفويتهم, تمحو منها تدريجيا رقة المشاعر وصدق الأحاسيس. يعيشون بين الناس بمشاعر مزيفة لا تكتشف الا بعد حين. يعانون وهم لا يدرون أو لا يعترفون بأمراض أهمها قسوة القلب وتبلد الأحاسيس. حتي أحاسيسهم تجاه أقرب الناس اليهم تصبح من الصعب الاهتمام بها والحفاظ عليها. يترجمون ما مروا به علي الدائرة المحيطة بهم ولا يعطون ما افتقدوه. ففاقد الشيء لا يعطيه.
في تلك الدائرة المحيطة بهم, يتحمل البعض فهو أيضا له نفس الطبع, ينسحب الاخر ناجيا بنفسه فهو لا يريد معاشرة قلوب قاسية, فيصبر اخر من له من الصبر حظا حتي .............................. يعجز الصبر عن صبره.
تلك الفتاة كانت محبة للسيرك. لايستهويها ٳلا فقرة المدرب. كيف يتعامل مع الأسود وكيف يدربها فتنصاع لأوامره. الأسود وهي من بين أقوي الحيوانات تنصاع لأوامر المدرب وتستجيب لٳشاراته بذلك السوط الطويل المخيف. ليس لديها أدني شك أن المدرب أقوي من حيواناته وأنه بارع في تدريبها. لم تحاول التدقيق في معرفة السلوك الحيواني وتحليل ردود أفعالها علي أوامرا المدرب بل اكتفت بالثناء علي مهاراته. فكرة أن الأسود كانت مجبرة علي الٳنصياع لٳشارات السوط لم تخطر لها أبدا أبدا ببال.
بعد فقرة الأسود كانت تصفق بحرارة لذلك المدرب وتقف وتشير له متمنية فقط أن ينظر اليها. كانت تذهب اليه بعد ٳنتهاء الفقرة لتنال منه توقيع علي ٳحدي صوره مع الأسود غير ملتفتة حتي ٳليها وهي في القفص منهكة بعد ٳنتهاء عرضها المبهر مع المدرب. فقد كان فقط يكفيها رؤية المدرب البارع ممسكا بسوطه يروض أقوي الحيوانات.
يوما ما وأثناء عرض فقرة الأسود وصوت المدرب يعلو والأسود تجري حوله. تنظر اليه الفتاة مفعمة بالحماس وكأنه الأقوي بين أسوده, تلاحظ أوامره المتتالية والكثيرة, أمر يلو الاخر وحركات سريعة علي الأسود القيام بها, وبعد كل أداء يلتفت لجمهوره ويحييه. تتهافت بأذن الفتاة أصوات عالية ما بين صخب الجمهور وزئير الأسود العالي. تلك الأصوات كانت تزيد حماستها واعجابها بالمدرب القوي ما أعماها عن رؤية هياج الأسود بسبب الام و أنين خلف سيط غليظ. في لحظة لم تكن أبدا في الحسبان, غير متوقعة ولا تخطر أبدا ببال لا الجمهور ولا المدرب الماهر ولا حتي مرت بخيال الفتاة, هجم أحد الأسود علي المدرب وأوقعه أرضا. انكب عليه محاولا ٳلتهام يده. فقط يده والتف حول الأسد وفريسته باقي الأسود.
فزع وهلع داخل حلقة السيرك, صراخ وعويل بين الأطفال, تخبط وهروب بين الجمهور بينما الفتاة ساكنة. باقي أفراد السيرك وبخبرة عالية استعدوا لسحب الأسود وٳنهاء تلك اللحظة المأساوية مع أمل بسيط أن يستطيعون ٳنقاذ زميلهم ,المدرب الماهر, من بين الأسود. كان السوط ملقي جانبا والأسد المهاجم ممسكا بالمدرب بين أفراد الأسود المحيطين به وكان بالفعل مصابا.
نعم كان الأسد مصابا مالم يلحظه أحد, كان المدرب مصابا وهذا هو مالاحظه الجميع. استطاع أفراد السيرك سحب الأسود الي أقفاصها. وسارعوا بنقل المدرب الي المستشفي. كانت اصاباته فعلا خطيرة وليست مميتة. صمت الفتاة كان بمثابة توقف عن التنفس. في قمة حماستها بالمدرب القوي وقع بين أنياب أسوده وكان أشبه بخرقة قديمة بين أرجلهم. الأسود وهي الأقوي كانت لديها الفرصة أن تلتهمه في أقل من دقيقة. ولكنها لم تفعل.
الفتاة لم تهلع من المكان كباقي الجمهور, لم تسرع الي المستشفي لتتحري ما لحق بالمدرب من ٳصابات, بل ذهبت الي قفص الأسود. كانت تلك هي المرة الأولي, فرأت كيف كانت ثائرة وهائجة وقت الهجوم علي المدرب ثم هدأت وسكنت.
هدأت الأسود وسكنت أقفاصها منتظرة عودة مدربها الذي قرر هجر أسوده عقابا لها علي ما فعلت به. فقد أعلنت وبحزم أنها أقوي وقادرة علي حسم الموقف ولصالحها......... المته وأوجعته. فردة فعل الأسود قد كسرت هيبته أمام جمهوره, قرر عدم العودة الي أسوده, متناسيا أن لكل فعل رد فعل قد يكون أقوي ولكن النتيجة واحدة: موجعة....... مؤلمة.
لاحظت جروح ذلك الأسد اللذي هاجم مدربه ورأت دماء متجلطة وجروح قديمة. ٳنها جروح أشبه بخطوط محفورة في جسده, حفرها المدرب بسوطه. آثارها جعلت الفتاة تدرك أنها جراح قديمة وليس هناك سبيل لتحمل المزيد. فاض الكيل بالأسد فلم يعد يتحمل الألم الذي ما جاء ٳلا ليذكره بآلام قديمة. فكثيييييييييييرا ما نتألم, نتوجع, نعاني, نبكي ونصمت فلا نتكلم. ولكن حقا ما أرهقنا ٳلا وجع القلب بسوط ساكنيه. وجع القلب نتيجة قسوة كنا عميانا نراها حنانا.
لا تلوموا صاحب رد الفعل قبل أن تتبينوا الفعل اللذي أصابه. لا تلوموا قبل أن تفهموا ولا تحكموا قبل أن تعرفوا. فكم من حقائق مدفونة تحت ألسنة يتعبها الكلام وكم من كلام واراه الصمت. خلف كل قصة تفاصيل قد تترجم يوما برد فعل قوي بل أقوي من صاحبه وغير متوقع منه وغير ملائم لشخصيته. تراكمت الاحداث وازداد الوجع فانطلقت منه طلقة عمياء تسكن غضبه وتوقف نزيف قلبه. من نفس تلك النافذة التي تشاهدون منها المشهد, ٳن أعدنا النظر واستحدثنا منطقية في الحكم عليه سنري ذلك الجانب الآخر للقصة. سنستشعر ذلك الوجع اللذي أنهك قلبا فأدماه ونقش بها جراحا لاتنسي ولا تمحي.
حقا ليس كل وجع في القلب حبا فقد يوجع الحب ألا يجد قلبا يسكن ٳليه, أو يطرده قلبا كان له يوما سكنا. ساكن القلب وٳن طعنك من الخلف, سر بجرحك بعيدا وحاول تضميده, ٳياك ٳياك وأن تلتفت له فيطعنك في القلب, حينها لن تموت صريع الطعنة بل بسوط قسوة عينا كم ذبت فيها عشقا. لا تجرحوا أو تخونوا أو تؤذوا قلبا فتكونوا سببا في وجعه, فكم من أوجاع أماتت قلوبا وأحيت سياطا.
-
أميرة أحمدطالبة دكتوراة في تخصص اللغة الفرنسية وآدابها