أنا لا أنسي التواريخ أبداً ..فتمر بي بلحظاتها الماضية وكأنها للتوْ قد حدثت ..
بكل عام كأنه ميلاد لها من جديد ...
في مثل تلك الأيام من عام واحد كنت قد أوشكت الإنتهاء من سلسلة رحلتي الطويلة من اختبارات بكالوريوس الطب والجراحة .. وبالتحديد أثناء الورقة الثانية من مادة النساء والولادة...
أذكر أنها كانت أثقل الأيام في عمري ..أياماً لا أتمني عودتها أبداً ..
وأذكر أيضا بأنني كنت أعد الأيام في أجندتي فأشطب يوماً بعد يوم حتي يوم النهاية...
وأيضا أذكر أنني لم أبك بكاء في عمري و لم أعش أضعف لحظات في عمري إلا كحينها ...
في ذلك التوقيت أيضا توفت جدتي وبالتحديد في التاسع من يناير ..
أتذكر نوبات الهبوط التي أصابتني وكنت مجبرة لأن أقاوم ..
أتذكر أيضا أساتذة القسم عديمي الرحمة ..وأتذكر استيقاظي في منتصف ليال يناير الماضي وقد كان البرد قاسياً ولم يكن رؤوفا كهذا ...
ولا يمكن أبدا أن أنسي رهاب لجان الشفوي والعملي ..وجلستنا علي سلم الكلية في انتظار الدور ...
والآن تخرجت وقد صرت طبيبة.. إلا أنني الآن لا زلت أشعر بتلك الغصة التي قد غرستها تلك الأيام العصيبة في قلبي وفي عقلي أولاً الذي لم ينسي ..
كل تاريخ عصيب هو ميلاد جديد له ..أنا لا أنسي ولكن أتناسي ..وما أصعب التناسي ..
ليتنا نستطيع النسيان بسهولة لكل التواريخ التي نكرهها .. ولكنها تبقي حاضرة حية في الذاكرة فقط لأننا لا نريد أن نتذكرها ..
أتذكر كل تلك الليال جيدا ..فأجدني الآن أبكي دون دراية ..
أبكي لأنني مازلت إنساناً ذو رحمة مع مرضاه .. طويل البال رغم كل ما مررت به..بينما لم تكن كل تلك السنوات بنا رحيمة ...
أبكي لأننا لم نجد يداً تربط علي أيدينا حينها في حين أننا نربط علي أكفْ الضعفاء والمرضي ..
ونحتمل بشاعة كل شئ ونتلقي سخرية الواقع الكبري بإبتسامات أكبر...
إنها لمهنة شاقة ..ولكنها المتعة في الشقاء وفي الرحلة ..
وشقاؤها الأكبر أننا نتعامل مع فئة من الشعب أغلبها لا تقدر تعبك .. هل كان ذنبنا إذن أن نحتمل أخطاء أكبر منّا...؟
رغم ما كان وما سيكون إلا أنني أحاول ألا أكون أنا الأخري عبئاً علي أحدهم ممن يحمل مرضاً فوق مرضه وهماً فوق همه ...
وسط هؤلاء الجموع الناكرة ..هنالك أحدهم ممن يستحق الرفق بالفعل...
وسط هؤلاء الماكرين .. أحدهم أصابته اللعنة بالخطأ...
شئ قاتل أن تطمئن غيرك ولم تجدك من يطمئنك في أوقات انكسارك ...
ولكن الرد دائما لنفسي بأنني الطبيب..وأنا من اختار الطريق ..
أنا دائما من يجب أن يكون صبورا بشوشا .. مستمعا أتلق الأعباء دوما بصدر رحب ...
أنا الآن أقوي ولم تكن قوتي من أي فراغ أبداً ...
أنا الآن أغني ..ولم يكن غناي هباءً لقد كان سلسلة من تنازلات ...
تنازلات عن ترفيه .. عن مشاركة .. عن حياة وسط الحياة ...
لذا أعطي لنفسي الآن القليل من الحق في البكاء علي عمري الذي مر كي أصبح طبيبة ..
فيكون مصيري الشقاء كهذا بلا أدني تقدير من البشر .. فلا أحد أبداً يمكنه أن يدرك عناء الرحلة إلا من رافقك فيها ولا حتي أهلك ...
لا زلت أنتظر اختبارات غير البكالوريوس في انتظاري الشهر القادم ..لا زالت الملازم تفتح لي ذراعيها مرة أخري ...
تخرجت ولا زلت أنتظر أداء المزيد من الإختبارات ..فتمضي الحياة كلها ضغوطات في ضغوطات .. كلها سلسلة لن تنتهي أبداً...
فلا بأس إذن من البكاء علي محطات الذكريات قليلاً ..
فإنني أبكي غصة طويلة في قلبي حينها والتي تولد في كل ذكري وكأنها المرة الأولي نحو الميلاد ...
فليكن تلك المرة بكاء خفيفا وليشفق بنا.. فلقد بكينا كثيراً قبل أن يصمت بكاءنا ما قبل الأخير ..وتناسينا ما تناسينا ..ولكني لازلت أتذكر .....
بقلمي : إيمان فايد
طبيبة امتياز..مستشفيات جامعة طنطا
السبت : 9 يناير 2021
-
Eman Fayed5Th Year Medical Student..Faculty Of Medicine ..Tanta University..Egypt writtting..reading❤️❤️ Article Writter..veto gate..