أطفال الورش - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أطفال الورش

مشهد من المحيط المعتاد

  نشر في 01 فبراير 2016 .

استمر العمل بلا انقطاع حتي المساء لكن أفاق (عادل) من غفوته بعد قدوم (سعد) الي الورشة ليبلغ الجميع أن الأسطي عزت أبوالدهب علي وشك الوصول 

انتفض الجميع وبدأ العمال يريدون مضاعفة جهودهم فأتجه عادل إلي ماكينات الألمونيوم وتناول قطعة من القماش بعد أن بللها بالجاز وأخد ينظف الألات بينما أمسك سعد بالمقشة ليكنس أرضية الورشة .فرغ علي من مهمة التنظيف وجلس علي الكرسي المجاور للمنشار وهم أن يشعل سيجارة الا أنه تذكر أنه لم ينظف المنشار بعد .وضع السيجارة علي حافة البرواز المعلق علي الحائط ثم نظر الي صورة الأسطي عزت بداخل البرواز ودعا الله ان يعجل بقدومه 

.ثم أخذ يبحث عن قطعة أسفنج لينظف المنشار فلم يجد اتجه الي حجرة المخزن الملحقة بالورشة ليبحث عن قطع الاسفنج وما ان دخل الي المخزن حتي استشاط غضبا وأرتفع صوته بالسباب فقد وجد سعد منزويا يدخن سيجارة من الحشيش الذي استطاع أن يميزه من رائحة الدخان فأخذ سعد يضحك غير مبالي بسباب عادل  الا أنه طلب من عادل أن يهدأ

خرج عادل من المخزن غاضبا من سعد  ومن تأخر الأسطي عزت ثم أشعل سيجارته فقد كان مشتاقا للتدخين بعد يوما شاق ونظر الي حائط  الورشة  متأملا حال تلك الورشة وأرضيتها الطينية التي تغطيها طبفة سميكة من الشحوم والزيوت وبرادة الألمونيوم المتناثرة علي الأرضية ومكابس المفصلات الأربعة المتراصة جنب الي جنب .

كم جني صاحب تلك الورشة من تلك المعدات؟؟كم عاملا قضي نهارا كاملا يعمل علي تلك المكابس؟؟ كم شخص أكتسب قوت يومه  من وراء تلك المكابس؟ كلها كانت اسئلة تدور في ذهن اعلي الغارق في تأمله .لكن وقع أقدام يقترب من باب الورشة بدد أسئلة علي الذي راح يعلق بصره بباب الورشة لينظر من القادم خاب ظن الصبي فلم يكن القادم هو الأسطي عزت بل كان صبي القهوة يطلب الحساب الذي سرعان ماأنصرف بعد أن أخبره علي بأن الأسطي عزت لم يأتي بعد وأنهم في انتظاره رحل صبي القهوة  .وأخذ عادل في تنظيف المنشار بعد أن فرغ من تدخين سيجارته وبينما هو منهمك في التنظيف سمع صوت بجانبه وللمرة الثانية يخيب ظنه فلم يكن الصوت الا صوت زميله سعد الذي أخبره أنه انتهي من كنس الأرضية فتمتم عادل بكلمات ثم أخبر زميله أنه أوشك علي الانتهاء من تنظيف المنشار ولم يأتي الأسطي عزت بعد.

انتهي علي من تنظيف المنشار وأفترش أرضية الورشة بجانب سعد بعد أن غادر بقية العمال الذين رفضاوا الانتظار وأخبروهم  بأنهم يعتزمون مقابلة الأسطي عزت ليلا علي المقهي بينما جلس (عادل) و(سعد) يترقبان وصول الأسطي عزت

دار الحديث بين العاملان حديث اعتياديا مثلما يدور في تلك الورش التي تعج بالعاملين حيث يقضي العمال أوقات راحتهم او انتظارهم في الورش إما يتحدثون عن ليلات الخميس الحمراء التي يقضيها زملائهم المتزوجين أو عن ربح صاحب الورشة أما المنتظران فكان حديثهما عن ربح صاحب الورشة فأخذا يحسبان مقدار مايجنيه صاحب الورشة في اليوم الواحد ثم يعدن الكره مرة اخري ليحسبن مايجنيه في الأسبوع ثم الشهر ثم يعدن الكرة ثالثة يحصين مايجنيه في السنة كاملة انهمكا في حساب الدخل الذي يحصل عليه صاحب الورشة حتي انهما لم يعيرا (الاسطي عزت) الواقف بين أيديهم أي إهتمام بل انهم لم يشعروا بدخوله الي الورشة  حتي صرخ (الاسطي عزت) في العاملان فهبا من جلستهما منتفضيين ليحييان الاسطي الذي لم يعيرهما أي اهتمام ولم يبادلهم التحية وأخرج من جيبه حفنة من النقود الورقية ليعطي (عادل) النقود ثم تمتد يده ثانية الي جيبه ليخرج النقود الي (سعد) وكأنه قد رتب جيبه ترتيبا دقيقا محسوبا .

ثلاثمائة وسبعون جنيها مقدار مجموع ماأخرجه الأسطي من جيبه في المرتين كراتب اسبوعي للعاملان .

مائة وسبعون جنيها تخص (عادل) ومائتان هي راتب (سعد) سلما العاملان علي الأسطي عزت وشكراه وهما بالانصراف لولا انهما وقفا يعدن عد الراتب .

لم يكن سعد الذي حصل علي مائتي جنيه أعلي راتبا من زميله (عادل) فحسب بل ربما كان سعد الأعلي راتبا من أقرانه في قريته مما جعله يحس بالتفوق علي جميع أقرانه وتزداد قناعته بأنه متفوق يوما بعد يوم -بينما ينظر اليه أقرانه الذين أعتادوا الذهاب الي مدرسة القرية نظرة شفقة دائما- ولم يكن سعد ليحصل علي مثل هذا الراتب وهو مازال في الثانية عشر سوي انه قدم الي المدينة ليعمل بتلك الورشة او غيرها من الورش لايهم مايهم هو المائتي جنيه الذي قد يحصل عليهما من أي من تلك الورش فكلاها سواء لا يختلف الأجر كثيرا مايختلف تعامل صاحب الورشة فحسب وهذا أيضا ليس مهم المائتي جنيه في النهاية هم الأهم بالنسبة لسعد أو غيره .عامان كاملان قضاها الصبي متنقلا بين الورش وفي نهاية كل أسبوع يوزع راتبه علي أوجه صرفه .للادخار مع امه الجزء الأكبر وجزء للتنزه واللعب وجزء يدخره لشراء ملابس الصيف وملابس الشتاء .أضف الي ذلك جزءا مستحدثا هو للحشيش الذي اعتاد الصبي تدخينه برفقة بعض اقرانه من العاملين الذين يبدون اعجابهم بسعد وشهامته ولم يكن الفارق العمري بين سعد وأرباب الحشيش من العمال يشكل أي عائقا فسعد المنتصب القامة صارم الوجه عرف الشارب واللحية طريقهما الي وجهه ليجعلا من ذلك الوجه الداكن الشاحب رجلا  في الثانية عشر بيدين متشققة غليظة وصوت جهوري مزعج يتعالي بالسباب واللعن فلا يستطع أحد تمييز عمره مما أزال حرج وجود طفل في جلسة الحشيش عن زملائه -لأنه كان يعرف أن حقيقة المرء حتي حين يعرفونها هي بالنسبة للاخرين لاشئ- وحتي ان سبب فماذا سيحدث؟ وان علم الأهل ماذا عساهم يصنعون؟ كانت اجابة تلك الأسئلة تدور في رأس الصبي وكأنها قد كررها علي نفسه كثيرا فأصبح مؤمنا بأنه لاشئ سيصنعه الأهل لاشئ يجب أن يهتم به الصبي لايجب أن يخاف أو يخشي أحد فلا أحد يهتم به ولم يكن يستجدي عطف أو اهتمام أحد لا حاجة له أن يكون علي حق لا أحد يهتم بما يفعل فهو لم يكن صبي عاديا كشأن باقي الأطفال فعندما يربح صغير في الثانية عشر مائتي جنيه في أسبوع واحد من جهد يديه فقد صار يربح ثمانمائة جنيه شهريا قد يعجز الكبار عن تقاضي هذا الأجر فحينما يعجز الكبار يكبر الصغار هكذا جري القول علي ألسنة البعض في المدينة (من يربح أكثر يصبح أكبر) .

 خرج سعد بصحبة  عادل من الورشة وسارا سويا في طريقهما الي منازلهما وافترقا عند المحطة ليستقل سعد سيارة بالأجرة الي قريته أما (علي) فقد توقف ليشتري علبة من السجائر- وبعدها تابع سيره الي منزله.

في الطريق لم تعد الأشياء علي ما كانت من قبل السياراات والمحلات والمباني وعواميد الانارة الورش علي جانبي الطريق أصبح مظهرها مختلف تزداد سوادا بفعل الدخان والكيماويات المستخدمة في تلميع وطلاء المعادن حتي البشر في الطريق صاروا أكثر غرابة من ملامح المدينة وحدهم أولئك العمال الذين يسلكون الطريق في مثل هذا الوقت يوميا هؤلاء المطحونين الذين يصابون بالتشوش لكثرة العمل عائدين من أشغالهم بدت عليهم علامات الارهاق والتعب لم تتغير هيئتهم وجوه شاحبة ملطخة بالشحوم وملابس بالية تراكمت عليها الزيوت من أثار العمل في الورش لكن منظرهم مألوفا لأهل المدينة انهم فحسب جزءا من المشهد المحيط المعتاد 

ولم يكن حال (عادل) يختلف كثيرا عن بقية العمال التي تعج بهم المدينة سوي أنه لايزال حديث العمل بالمهنة فكان يسير في جانب الطريق مسرعا خجلا لانه لم يعتاد ارتداء ملابس العمل بعد يضيق أفقه من نظرات المارة التي ترمقه بسبب مظهره وتخبطه في سيره مما جعله يسير في الطريق عابثا يفكر في نظرات المارة لكنه كعادته ينتبه علي صوت أحد يعرفه ينادي عليه ويستوقفه ليسأل برتابة يكرهها (عادل) عن حاله وعن مهنته الجديدة ربما كان صديق أو جار أو زميل وفي تلك المرة أنتبه (عادل) ونظر خلفه ليري صديق دراسة قديم لم يقابله منذ فترة كان (علي) مشوشا من رؤيته كل الأمور لديه خارج نصابها لذلك كان مضطرا لوضع الأمر في نصابه الصحيح. سلم عليه بحرارة بالغة لقد أوشك الزميلان علي العناق سوي أن ملابس علي المتسخة نبهتهما وكأنها تصرخ لتحذرهما من عاقبة هذا العناق علي ملابس الصديق النظيفة فتراجعا بعد أن تدارك كليهما الموقف في لطف ونظر الصديق  الي ملابس صديقه – بينما خفض علي بصره صوب ملابسه المتسخة كان قد أدرك مغزي نظرة صديقة -الذي سأله عن سبب انقطاعه عن المدرسة  وعن سر ارتدائه تلك الملابس فأجابه علي أنه ترك المدرسة ليبدأ تعلم مهنة ليساعد الأهل في النفقات  .

زميل عادل هو الأخر قد أتم عامه الرابع عشر مثل علي لكنه مازال يدرس يذهب الي المدرسة الاعدادية التي تركها علي بعد عاما واحد من التحاقه بها وألتحق بورشة الأسطي عزت .

 أمتد الحديث بين الصديقان وتذكرا المدرسة وزملائهم في الدراسة وذكريات جمعتهم سويا في المدرسة  لكنها أيام مضت ولا سبيل لعودتها  أو ربما لم يكن علي يريد عودتها حتي وأن كان هناك سبيل لعودة الماضي فهو لن يكون مسرورا ان عاد الي المدرسة .افترقا الصديقان بعد أن حمله عادل بالتحية الي اثنان من زملاء دراسته 

 .افترقا الصديقان لكن صوت الصديق لم يفارق عادل ظل صداه في أذنيه ماهذه الملابس؟لماذا تركت المدرسة؟  يتذكر لقد كانا صديق له ذات مرة .الان تبدو الأمور كأن لاشئ يربطهم  لكنه لم يركن الي ذلك الصوت طويلا فقد وصل الصبي الي منزله أخيرا بعد عناء يوم طويل


  • 1

   نشر في 01 فبراير 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا