حــــــورية إبـــــلـــــيس (الجزء الأول) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حــــــورية إبـــــلـــــيس (الجزء الأول)

  نشر في 01 ماي 2023 .

استيقظت روز من حلمها على صوت المذياع الصاخب، الفارغة أخباره من كل أمل. كانت تحلم بأنها أصبحت حورية بحر وتعيش في أعماقه، لكنها تذكرت بعد انتهاء منامها أنها أماني مستحيلة:

- تُرى، هل ما أحلم به يعبر عن رغبة لدي في الغوص بأعماق الأشياء؟ وكأنني لست متعبة كفاية من الغوص في العمق. أصبحت أتمنى أن أعيش على السطح، على سطح كل شيء: الحياة والمجتمع والسياسة و... والحب. أم تُراه اللاوعي يوحي إليّ أنني بحاجة لمن يؤنس وحدتي ويحتويني كما يحتوي البحر أسراره؟ أم أنها مجرد أضغاث أحلام. لكن هذا الحلم يتكرر! كم وددت أن أجد له تفسيرا؟

ارتفع صوت المذياع بالبيت، الآذان مجتمعة حوله. نشرة الأخبار تنذر بفصل شتاء ليس لقساوته نظير. ستضطر الأسرة الصغيرة إلى اللجوء للعزلة ككل عام. في كل سنة تأمل روز بأن تتحسسن الأحوال وتستطيع الخروج من قريتها المختبئة في حضن الجبل تلك، لكن في كل مرة تنتصر إرادة الجبل.

علت الأصوات بخارج الدار، أطلت روز من نافذة حجرتها الصغيرة لترى تجمهرا غير عادي لشباب القرية. فهمت أنهم عقدوا العزم على مغادرة القرية نحو المدينة للبحث عن سبل للعيش الكريم. هتف فيهم عباس، أشجعهم وأكثرهم قوة قائلا:

- يا أبناء قريتي التعيسة، يا شبابا لم يعرف للشباب طريقا، إنه ليوم حاسم في حياتنا. فإما أن نتقدم نحو المستقبل ونتجرع مرارة المجهول، وإما أن نمكث في ذل الفقر إلى الأبد. يا أهالي القرية الطيبين، لا تخافوا فرحيلنا هذا لن ينسينا أصلنا ولا من أين جئنا. نحن أبناء هذه الأرض وسنعود يوما... سنعود ونمد أيدينا للمسحوقين مثلنا. سننطلق غدا عند الفجر.

تبعثر الشباب من شدة حماسهم يمينا وشمالا مهرولين نحو بيوتهم المهترئة ليجمعوا ما تبقى لهم من ملابس وذكريات. اجمعوا قواهم وتحلو بالكثير من الشجاعة، كلام عباس جعلهم ينسوا يأسهم ولو للحظة. فورا خطرت ببال روز فكرة، لماذا لا تهرب معهم؟ لما لا تطلب من عباس أن يجعل لها مكانا معهم؟ فهي كذلك تريد أن تَفِرَّ من مصيرها المحتوم في مكان لا تجد فيه نفسها. قطعت أمها أفكارها مناديه بصوت يظهر عليه التعب:

- يا روز يا زهرة حياتي، هلاّ ذهبت للفرن لجلب الخبز؟ الغذاء جاهز.

توجهت الفتاة نحو الفرن ولمحت في طريقها عباس وأخاه ليث الأصغر يدقّان على أبواب بيوت القرية ليودّعوا أهلها. توقفت لحظة ثم القت عينيها خلسة نحو الأخوين ووجدتهما يعانقان عم أيوب، كبير الحارة وأوقرها رجالا والأخير يخاطبهما:

- في رعاية المولى، سوف أدعوا لكم بإنجاز كل ما لم نقوى على تحقيقه في مكاننا هذا. وأريدكما أن تتذكرا شيئا، سوف تواجهكم مصاعب كثيرة وحروب. لتنتصروا وجب أن تُرَجِّحوا الحكمة على الجرأة والبأس. فليست كل الحروب تُكسب بالقوة.

تجهم وجه ليث. فطن إلى أن ما هم مقدمون عليه لن يكون بالسهولة التي يخالها. لعل صغر سنه وتوهج شبابه أنسياه أن الحياة لا تتخذ صاحبا ولا خليلْ، وبأنها مجرد لعبة لا نفهم كل قواعدها.

أسرعت روز نحو الفرن قبل أن يراها أحدهم. أحضرت ما طُلب منها وعادت مسرعة إلى البيت. لم تكترث للغذاء، عادت لخلوتها ودارت برأسها الأفكار... تفكر بالهرب مع الهاربين.

********************************************************************

لم يتبقى لروز سوى بضع ساعات لتقرر، فكرت فيما سيحل بأمها وأختها إن هي قررت الرحيل ولسان حالها يقول:

- يا رب ألهمني، أألقي كل شيء من وراء ظهري وأذهب معهم نحو المجهول؟ كلَّ شيء؟ وماذا أملك لأخسره؟ حجرة ضيقة وشمعة ليل، وكتب وكراسة طفولتي الممتلئة بآمالي البالية. اهترأت الآمال كما اهترأت الكراسة مع مرور العمر. سامحيني يا أمي إن أنا خذلتك، سامحيني إن لم أستطع أن أكون الابنة التي تتمنين. صدقيني لقد حاولت يا أمي، حاولت جاهدة أن أحب هذا المكان لكنني لم أقوى على ذلك. إن صدري ضيق كضيق يوسف في البئر. إن ذهبت فلن أعود لهذا المكان إلا وقد حققت ما أصبوا إليه. سامحيني يا أمي...

استغلت الفتاة انشغال أمها بالخياطة وأختها باللعب وقصدت عباس لتطلب منه أن يجعل لها مكانا معهم في رحلة اللاعودة، لكن الأخير رفض بحدة بحجة أن لا مكان للفتيات ولا للنساء معهم. كل الراحلين ذكور. ألحت عليه كثيرا لكن عناده كان أكبر من إصراراها. هي تعلم أن ليث لا يخالف رأي أخيه، لا فائدة إذن من اللجوء إليه. عادت أدراجها إلى البيت عاقدة العزم على الرحيل مهما كلفها الأمر.

جاء الموعد المحتوم، جمعت في بقجة ثوبين وفي قلبها حزنا كبيرا حاولت مداراته بشيء من العزيمة. ذهبت في آخر الليل لتلقي نظرة أخيرة على أمها وأختها النائمتين لتودعهما وداعا صامتا. ثم ارتمت في حضن ذلك الشيء الغامض الذي يناديها. وصلت للمكان المعلوم لتجد شاحنتين، في كل واحدة منهما مساحة مخصصة للأمتعة وما تبقي للراكبين. خطر لها أن تختبأ بين الأمتعة المخفية تحت غطاء من خيش. الشباب والسائقان ملتفون حول نار بسيطة، يحتسون القهوة والشاي ويستمعون لخطاب عباس المحفز كالعادة. استغلت انشغالهم لتندسّ بجسدها النحيل مع الأمتعة.

لم يلحظ أحد وجود روز بين الأمتعة. بعدما ابتعدوا عن القرية بمسافة يستحيل بعدها الرجوع، أطلت من مخبئها فدهش الكل. توقفت الشاحنة لينزل منها عباس حانقا، حدج الفتاة بنظرة مزجت بين اللوم والازدراء:

- كيف خطر لك أن تفعلي ما فعلته ونحن في غفلة؟

- أردتُ أن تكون لي فرصة كفرصتكم.

- أي فرصة هذه؟ نحن لا نعلم إلى أين نحن ذاهبون ولا ما نحن فاعلون!

- سأرافقكم، وإن على الموت.

- سنوصلك معنا إلى المدينة وبعد ذلك لكل طريقه.

- لن أعارضكَ هذه المرة.

عند وصولهم إلى باب المدينة أمر عباس رفقائه بأن يتفرقوا حتى لا يثيروا الشكوك بعددهم، ظلت روز واقفة لعل قلبه يرق ويقدم لها يد المساعدة، لكن الأيام علمته أن لا مكان للعاطفة في الغابة:

- هذا فراق بيننا يا ابنة قريتي، ليس بوسعي مساعدتك. فاقد الشيء لا يعطيه...

- ستبتسم لك الحياة يوما كما تبتسم السماء للأرض، ربما تهديك هنا ما لم تجده هناك. لكن لا تنسى أبدا أنك ستبقى ابن تلك القرية الفقيرة في أعالي الجبال، وبأن الرجوع للأصل فضيلة.

مرت أيام على روز وهي ضائعة لا مأوى لها وجائعة لا لقمة ليومها، كانت تنام بالحديقة العمومية للمدينة وجيبها خال من أي نقود. بدت لها المدينة وكأنها وحش يريد التهامها، الناس منهمكون في انشغالاتهم ولا أحد يكترث للآخر. صخب المدينة مزعج، كل شيء زائف، كل شيء مختلف. بدأت تبحث عن عمل في كل مكان يمكن أن يحتويها، وجدت نفسها نادلة في مطعم شعبي وسط سوق الجابرية المعروف بأكبر متاجر الثوب.

مرت أربعة أشهر على روز وهي لا تفكر سوى في أمها. لن تتحمل مصاريف هاتف نقّال، النقود التي تكسبها لا تكفي سوى لمأكلها ومشربها ولدفع إيجار مسكنها الجديد في بيت كبير غير بعيد عن المطعم، تمتلكه امرأة شبه عجوز ولا يسكنه سوى الفتيات القادمات من القرى المجاورة باحثات مثلها عن غد أفضل. لا تتوفر حجرتها المطلة على ساحة البيت سوى على فرشة قديمة وخزانة ملابس لم يتحمل خشبها قساوة الزمن، إنه بيت شبيه بالمعسكر، ينطفئ فيه الضوء على الساعة الثامنة من كل مساء بأمر من صاحبته السيدة ناهد.

وفي خضم بأسها بدأ يتردد على المطعم زبون لم تألفه روز من قبل، كان يأتي كل ثلاثاء على موعد الغذاء ليطلب نفس الشيء ويغادر بابتسامة عريضة لم يكن يرسمها على شفتيه سوى لها. اعتقدت الفتاة أنه معجب، ستكتشف بعد مرور الوقت أنه ليس كذلك.

********************************************************************



   نشر في 01 ماي 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا