بينما أنا في طريقي أسير حائرا لا أعلم إلى أي وجهة سأصل وأين منتهى هذا المسير الشاق؟!
سمعت صوتا ينادي من بعيد ليس بغريب عن مسامعي ورغم ذلك لم استطع تمييز المنادي الذي قال لي بصوت يخنقه البكاء ويُعلي من رنينه الصمود "عد من حيث أتيت يا صاحبي..فمثلك لا يفر من الناس".
ما أثار دهشتي حقا قبيل سماعي أن ناداني بصاحبي!!..ألا يعلم أن الجميع قد انفض عني حتى أقرب الأقربين جفاني فصارت عزلتي أنيستي فمن ذا الذي اختارني لأكون له خليلا وقد نفر الخلق مني لعجزي عن سياستهم بالتي هي أحسن والتي هي أسوء أيضا.
فسمعت الصوت يقول وكأنه خبير بما حدثت به نفسي: ما انفضوا عنك لعيب فيك بل لجهلك بنفسك فرددت عليه غاضبا: جهلي بنفسي؟؟!!كيف لي أن أجهلها وقد ثابرت كثيرا في مراوضتها إلى أن صارت طوعا لي فيما آمرها به خيرا كان أم غير ذلك، لو كنت بدواخلها جاهل كما أدعيت فكيف استطعت تسخيرها لصالحي كل هذا الوقت.
فرد علي ساخرا: وطالما كنت ومازلت بتلك القوة فما الذي ألقى بك إلى هنا؟ فطأطأت رأسي وقلت: أنا!!، معك كل الحق ، فأنا من ألقيت بحتفي إلى هنا.
فقال له بنبرة حانية: والآن أصغ لي.
جهلك بنفسك أي نقص إلمامك بما تملكه من عطايا ربانية وهبها الله لك لتمكنك من سياسة خلقه وفق ما يرضى وتُكسب من حولك الهيبة منك والمحبة لك في الوقت ذاته أو إحدى هذين الحسنيين ومن تلك العطايا أداتين هامتين إن أحسنت استخدامهما فلن تشعر بالعجز إلى الأبد.
فسألته بشغف: فما هما؟..فقال لي:إرادة الخير وإدارة السوء.
إرادة الخير تحملها فطرتك النقية تلك التي خلقها الله تعالى وأودع فيها كل طيب لك ولخلقه، هي فيض من الأخلاق الحسنة والفضائل النبيلة من إيمان وحب وتواضع وتسامح وإخلاص ومثابرة وعزيمة..وغيرها من المثل العليا،إن تلك الإرادة هي براءتك.
أما إدارة السوء فإن مددها براءتك ومُحركها عقلك بما يزخر من خبرات ومعارف عن ذاتك وعن الخلق وعن الحياة لتعينك على سياسة البشر بالتي هي أنسب لك ولهم..إن هذه الإرادة هي مخالبك.
مخالبك..تلك التي أسأت استخدامها حتى آل بك الأمر إلى الحيرة فسألت نفسك أضحية أنت أم جان ؟ وساقتك حيرتك إلى الإحساس بالعجز فأعمى العجز بصيرتك عن عيب نفسك الحقيقي.
فسألته بعد طول إنصات لحديثه الموجع والصائب في الوقت ذاته: فكيف أسأت استخدامها؟
فقال لي: حين فُتنت بأهل السقوط الذين باعوا براءتهم من أجل أن ينالوا حظا وافر من جناح البعوضة فقد استطالوا اختبار الدنيا وملوا الصبر في سبيل الدار الباقية فاقتديت بهم وبدت مخالبك كالنار التي تأكل كل من تلقاه من أجل أن يبقى بريقها ساطعا مخيفا في عين كل من تراه..فصرت شيطانا يكرهك أتباعك ويطيعونك في الوقت ذاته لكن لم يطل بك المقام حيث أتى شيطان آخر أكثر منك خُبثا فأزاح إمارتك وأسقط هيبتك فلفظك أتباعك واستراح منك ضحاياك والناس أجمعين فخارت قواك وشككت في منهاجك الذي عاملت به الخلق وقلت لنفسك: إن السيادة ليست في البطش وإن نجح لبعض الوقت فلن يكتب له البقاء طويلا وليس مكري بشئ بجوار مكر الله بي وبغيري.
وخلعت عنك عُجبك وتجردت من مخالبك وعدت إلى نقائك كيوم وُلدت ووددت لو عدت جنينا برحم أمك بعيدا عن دنيا الناس فقد ألِفت الراحة في دنيا الكبد لكن دعتك احتياجات الحياة لمواجهة البشر ثانية فخرجت إليهم وقد اتخذت العزلة مسلكا لك لا تكلم أحدا خوفا من أن يزل لسانك بما لا يليق ، ولا تود أن يحدثك الآخرون فيخترقوا جدار عزلتك ، لا تُعين المكروب خوفا من فشلك في نجدته ولا تنصر المظلوم تفاديا من بطش الظالم لك ، تُظهر العفو أمام الناس عمن انتهك حقوقك وأنت غير قادر على المطالبة بها منه فترضى باسم العفو الهوان لنفسك.
ورغم ذلك فأنت ببعيد عن الأمان إنك تسير في الطرقات دائم الالتفات تسأل نفسك من أين يأتيك الموت وممن من الناس؟..خائف من نفسك ومن الناس ومن الحياة وتدعي الرضا عن حياتك فظنك الآن أنك احتفظت ببراءتك ولم يعد لك مخالب تؤذي بها خلق الله كما في سابق عهدك.
كفاك خداعا لنفسك فقد انتكست يا صديقي، فما البراءة بالضعف والاستكانة وما القوة بالبطش والإيذاء.
فإذا أردت أن تسوس البشر بحق فتمسك بكلا السلاحين"براءتك و مخالبك" لكن عليك أن تعلم أولا متى تسوسهما وكيف يكون ذلك ومع من من البشر؟ واعلم أيضا أن كليهما يضمن لك العيش بقوة وسكينة نفس فتمسكك ببراءتك يضمن لك دوام الصلة بالله ومن ثم حفظك من كل سوء فأنت في يد أمينة ومُحبة فلا تقطع هذا الوصل.
وطالما اتقيت الله على قدر استطاعتك فسيوجهك إلى أخذ أسباب الوقاية من شرور البشر وحسن سياستهم فتنبت لك مخالب نظيفة وقوية في الوقت ذاته تحفظ لك هيبتك في قلوب الخلق فلا يجرؤ أي منهم على انتهاك حقوقك أو اختراق حدود عالمك الخاص ولا تمانع من الاختلاط بهم لتنتفع بخيرهم وتلفظ برغبتك خبثهم ولا تداهن أحدهم طمعا في كسب وده جلبا لمنفعة ثمنها مبادئك ولا ترضى لنفسك الدنية فتحيا كما تريد لا كما يرى الآخرون.
ولتتخذ قول الفاروق عمر رضي الله عنه منهاج حياتك "لست بالخب وليس الخب يخدعني"..نعم "لست بالخب" لأن براءة فطرتي ضمنت وصل روحي بخالقي دون أن يلوثها كدر وأيضا"ليس الخب يخدعني" لأن علمي بالأذى وتحرزي له وفق ما يرضى ربي ضمن لي العيش بعزة نفس.
وما أن أنهى الصوت حديثه العذب وليته ما أنهاه حتى سألته بشغف: من أنت يا صديقي الحبيب؟ فإذا بي أجيب بالنيابة عنه وأقول: أنا نفسك اللوامة فرددت عليها وقلت: حقا..ما ينبغي لشخص يحمل هذا الصوت داخله أن يفر من ميدان الحياة.
-
علاء صلاحبكالوريوس إعلام - قسم إذاعة وتليفزيون- جامعة القاهرة، حاصل على المركز الثالث على مستوى جامعة القاهرة عن نقد كتاب لماذا رفضت الماركسية عن مسابقة إقرأ للنقد الأدبي، معد برامج بقناة أراك ميديا بالعربي على اليوتيوب"سابقا" ...