بعدما انتهى الأستاذ من إلقاء الدرس وبينما كنت استعد للانصراف ، اتجهت نحوي إحدى زميلاتي ،ذات الأصول الفرنسية، وهمست في خجل: عفاف، هل لي بطلب خاص منك؟ أجبتها بابتسامة : أكيد..لو في استطاعتي لما لا. أخرجت ورقة بيضاء وقلم حبر أسود، ثم استرسلت قائلة: غدا هو ذكرى ميلاد عمي ..و هو أقرب شخص لي و الأغلى على قلبي، فهو بمثابة أبي..أردت أن تكون هديتي له مميزة، فهل بإمكانك أن تنتقي لي جملة باللغة العربية أعبر له بها عن حبي ؟ فوجئت بطلبها وخيم الصمت لثوان، فأكملت حديثها: لا تستغربي! فعمي مهتم باللغات و الكتب السماوية ، ولقد درس اللغة العربية لأكثر من ثلاث سنوات و لطالما حدثني عن جماليتها و عمقها. وافقت على طلبها بكل فرح، ولم يخطر ببالي إلا الآية الكريمة:" و قل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا".حاولت جاهدة أن اشرح لها المعنى ، وأظنها كانت مسرورة بغنيمتها تلك..أما أنا، فانهال علي وابل من الأسئلة : كيف لشخص لم يترعرع في حضن بلد عربي ، أن يحب لغتنا و يختار دراستها؟أ كنت سأسحر بهذه اللغة لو لم أكن مغربية مسلمة ؟ هل يا ترى كانت ستصيب قلبي سهام عشقها و سأصبح متيمة بحرفها؟
لم ينقذني من هذه المتاهة إلا ذلك الصوت الآتي من الأعماق.."ببساطة لقد رزقت حبها"..كما رزقت حب أشياء أخرى و رزقت نعماً لا تعد و لا تحصى.
مكانة خاصة ومرتبة عالية لم تزحزحها الأيام، استولت على عرش قلبي ، فهي السلطانة الآمرة الناهية في حضرة اللغات الأخرى، وأنا حبيبها السلطان الذي لا يرفض لها طلبا . ويوما بعد يوم ، يزداد ولعي وأنا أحضن بين ذراعي كلمات ليست كالكلمات ،وأشرب دون ارتواء ، وكلما سُئلت : هل تتقنين السباحة بين معانيها ، أجيب بكل فخر: لقد اخترت الغرق في بحورها و بين موجات تفاعيلها ، علني أغدو ولو بعد حين من سكان أعماقها.
أكاد أجزم أن عشقي للغة الضاد ابتدئ منذ أن همس في أذني يوم ولادتي: الله اكبر الله اكبر ، تلك كانت البذرة التي نمت في داخلي على مر السنين. ومع أولى خطوات كتابة اسمي و أولى الآيات التي رتلت ، أسرت بجمالية حروفها ،وكنت الفريسةَ التي رُميَ بشباك الهوى حولها فأُتقنَ صيدُها . لهج قلبي بحبها وأنا أجول أميرةً بين قصص السند ريلا و بياض الثلج، مغرمة بحكايا السندباد و الأمير المغوار، حتى رست سفينة شغفي على شاطئ المنفلوطي ، فكانت "مجدولين" أول رواية قرأت، وعشت بين ظلال الزيزفون قصة حياة بكل منعطفاتها.
في المقابل ، كان يثير اهتمامي ذلك" الكتاب المقدس"، الذي لطالما رددت أمي على مسامعي بعضا من كلماته قبل الخلود إلى النوم ، لم أكن واعية بماهية ما يرتل، لكنه ارتبط - بذهني كطفلة - براحة وطمأنينة أحس بها كل ليلة وانتظر حلولها بكل شوق.. ومع توالي الأيام، جذبني ذلك الوهج الرباني المنبعث من ألفاظ المصحف الشريف ، و أصبحت أمضي ساعات طوال لفهم آية واحدة ، و أهيم بين صفحاته ، بحثا عن المنهج الصحيح للحياة . تلك الجمالية والدقة في المعاني، وذلك الانسجام و التوازن في الصيغ أنال اللغة العربية الشرف العظيم بأن تكون لسان الوحي و لغة دعوة للعالمين.
واستمر صدى لهفتي، حين رميت بقلمي بين أحضانها، كالعاشق الذي احترف جنون الحب، أشبع أشواقي بكل حرف أدونه ، كأنما هي الحياة وأنا على قيدها.لم يكن أبدا اختياري الهندسة كتخصص أو هجرتي لدولة أوروبية صدا مانعا أمام هذا الولع ،بل على العكس ،فلطالما اعتبرت ميولي للأدب جزءا من فكري وهويتي، و ستظل هذه اللغة السامية في نظري منبعا زلالا عذبا ، ارتوي منه كلما أحسست بالظمأ، و ظلا أفيء إليه لأحمل بين ذراعيه حبا رزقته..حبا يخفق بين ضلوع الكثيرين مثلي و يتنفس بشوقٍ لحنَ الحياة.
-
عفاف فتحيبقدرالإصرار و العمل ..تتسع الحياة
التعليقات
ممتاز عفاف..تلك الارادة القوية التي لا تكسرها اي قيود..انت مستنطق لذاتك وقد اثرت شجونا بداخلي أفضل التحفظ به..رائعة اكيد.
أشكرك على كل ثانية استغرقتيها في كتابة مقالك، بارك الله في مجهودك .
وبالفعل كثير ممن منّ الله عليهم بهذه اللغة، بينما قليل من رزق حبها، فهنيئًا لك ولنا ...
وقولك عندما تكلمتِ عن تخصصك "فلطالما اعتبرت ميولي للأدب جزءا من فكري وهويتي" نال كمال إعجابي، فعلًا كلامك يثلج الصدر ويسر الخاطر .
وأخيرًا، لدي ملاحظات يسيرة:
استغربت كتابتك الآية هذه لزميلتك، حيث أنها أرادت جملة لعمها ولو كان هذا العم هو مربيها لا أراها تتناسب فهي نزلت في الوالدين لا أحد سواهما .
والصورة الخيالية (الفريسة) لا أحسبها تلائم رقاقة وجمال الموضوع، فعادة ما تستخدم هذه الصورة في مواقف أمثال -على سبيل التمثيل لا الحصر- شراسة العدو ونحوه، ربما غيري يراها تتناسب ولكن عندما اندمجت في رقاقة ألفاظك كأني أحسست بثغرة عندما قرأت هذه الصورة .
بالتوفيق في كتاباتك القادمة عزيزتي .