حملت النملة حملها جاهدة، بعد أن استراحت هنيهات في الفيء، مستترة تحت الأعشاب. وكانت الشمس تسبح في وسط السماء، ناشرة الحر واللهب على الأرض المكشوفة، الخالية من الأشجار والظلال.

    ثم مشت متباطئة بعد أن أنهكها التعب، وألم بها الجوع والعطش. فقالت كلمات ممزوجة بالحزن والأسى:

    علينا نحن جماعة النمل العمل المتواصل، وتحمل المشاق والصبر على الحياة، فمنذ أن وضعتنا يد الآلهة على هذه الأرض البعيدة في أعماق الكون، حيث فيها ألم ووحشة، وغربة عن أصولنا وذواتنا ومرقدنا الأول، ونحن نجاهد من أجل وجودنا وبقائنا، وبقاء أولادنا حتى تحين الساعة.

    وإن هناك في بيتي البعيد في أعماق الأرض، من ينتظرني بفارغ الصبر. منتظراً طعامه وعاطفتي على حد سواء...

    ثم تابعت النملة الصغيرة الملتصقة بالارض سيرها وهي تحمل في قلبها، أمال واحلام اطفالها ومستقبلاً كريماً لهم.

    ولكن ولسوء حظها امتدت إليها من حيث لا تعلم قدم عملاقة فدهستها ومشت غير آبهة بما فعلت.

    فسقط الحمل، وسقطت الأحلام، وخيم شبح الموت والظلام، وسقطت النملة الأم على الردى، ترمق الظلم يمر من أمامها، يدهس بقوة الحجم والرعونة الحمقاء، والشريك الآخر في الحياة الذي له أحلام كأحلامه وعاطفة سمحاء.

ثم قالت قبل أن يبتلعها العدم، ويحولها إلى جوفه الساكن، وقبل أن يخطفها الموت إلى أعماقه وخفاياه:

   إن هذه القدم رأيتها في المدينة، وقد جاءت هذه الأرض من سالف الأزمان، وسيطرت عليها بالغدر والاحتيال، ودكت الرعب والموت في أمثالها، وفي المخلوقات الأخرى، وهدمت الطبيعية الخضراء خدمة لأهدافها الجامحة.

   ولكن حبذا لو انتظرت قليلاً، لأوصل حمولتي إلى من ينتظرني، فألقي عليه النظرة الأخيرة وبعدها إن مت فيكون هذا قدري لأن الوحوش تلهث دائماً لأكل الضعفاء والمساكين.

    لكنها ماتت مسحوقة قبل أن تحقق أياً من أحلامها. فسمعت رفيقة لها كانت تمشي خلفها، حديثها وما جرى لها. فحملت حملها إلى حيث ينتظرها الأولاد  ثم قالت والدموع في عينيها: لا بد من عالم آخر، عالم ليس من البشر، عالم فيه عقل وقلب وحكمة، يأتي إلينا من السماء، فيستوطن هذه الارض، بعد أن يفني هذا العالم نفسه بحقده وأنانيته وجلجلة أطماعه، وحينها يعم العدل والإنصاف وتسود المحبة بين كل المخلوقات.

              عبدو بليبل