منذ فترة شاءت الظروف أن أكون مع بعض الرفاق، وكان أحدهم قد خرج لتوه من تجربة اعتقال قصيرة لم تستمر إلا بضعة أيام قضاها فى أحد أقسام الشرطة، وكان الرفاق ملتفين حوله يستمعون إليه وهو يقص عليهم ما حدث له أثناء التحقيق داخل القسم، ولفت نظرى أنه كان يسمى الضباط بالإسم، وكان يبدوا واضحا على وجوه باقى الرفاق معرفتهم المسبقة لتلك الأسماء!.
كان يقص عليهم كيف كان يتهرب من الإجابة على الأسئلة بادعائه عدم المعرفة تارة، والإجابة بعمومية لا تؤخذ عليه تارة أخرى، ووقْع ذلك على الضباط؛ ثم أخبرهم بأحد الإجابات التى قالها، وكيف أكملها له أحد الضباط متهكما بقفشة ظريفة سابا فيها أباه وأمه "وكـ.. أمه"، فانفجر الرفاق كلهم ضاحكين من طرافة القفشة!؛ ثم أخبرهم ببعض وسائل الترهيب والتخويف التى اتبعوها معه، كالسب والصفع والركل، وكيف أن أحدهم قام ليجذب سرواله لأسفل (فى تهديد صريح لا يخفى على أحد)، وكيف أنه استمات على سرواله؛ ثم كيف ادعى الرعب والهلع بأن بدأ يرعش فى قدمه ليشبع شهوة السادية لديهم ويصرف الانتباه عن سرواله، وكيف أنه قد خالت عليهم فعلته، وسط نظرات الإعجاب من باقى الرفاق!.
كان الرجل يحكى كل ذلك بنبرة مليئة بالثقة والثبات والنصر ممتزجة ببعض الفخر!، وكان الرفاق يستمعون إليه بالانتباه والإعجاب والتقدير لخبرته وبراعته فى التعامل مع هكذا مواقف!.
وقتها أحسست بغصة فى حلقى ورأيت سوادا أمام عينى، فاستأذنت منهم وتركتهم رغم إلحاحهم لى بالبقاء، وأخذت أتسائل بينى وبين نفسى: كيف يصل الحال إلى هذه الدرجة من الدونية؟، أين ذهبت حمية الرجال؟، كيف يتحدث الرجل عمن تعدى عليه وتحرش به وسب أباه وأمه وهو يضحك؟!، بل كيف يعرف اسم جلاده ولا يتحرك؟!، وكيف يستمع رفاقه لهذا ويضحكون؟!
لم أجد ما أجيب به نفسى إلا أن هؤلاء النفر قد وهبوا حياتهم كلها لله، وتصدقوا بأعراضهم وأجسادهم فى سبيل عقيدتهم، وعلموا أن من يضربهم ويسبهم ويتحرش بهم لا يفعل بهم ذلك لذواتهم وإنما لاضطلاعهم بتلك القضية، قضية الإسلام، فما عادت لديهم غضبة لذواتهم وشخوصهم، وإنما صاروا لا يغضبون إلا لله؛ وتلك درجة من درجات التجرد والإخلاص يصعب على أمثالى استيعابها ناهيك عن التحلى بها.
ثم تذكرت يوم بدر، يوم الفرقان، عندما واجه الأذلاء المستضعَفون المعذَبون جلاديهم للمرة الأولى بعد أن حملوا السيوف وأُذن لهم فى القتال، وكيف قاتلوا لا ثأرا ولا ضغينة ولا انتقاما، وإنما قاتلوا لله؛ فمن مات منهم مات على ذلك ومن عاش عاش على ذلك أيضا.
وقبل أن أغلق هذا الباب – مدعيا الفهم والاقتناع –، انتبهت عن يمينى لصرخة بلال: "رأس الكفر أميَّة، لا نجوت إن نجا"، واندهشت!. هل انشغل بلال عن كل ما حوله وانتبه لأميَّة؟!؛ هل ترك النبى خلفه يدعوا الله ويبتهل، والملائكة من حوله حاملى سيوفهم تثبيتا وتوكيدا، وخيار خيار الصحابة بجواره يسطرون ملحمة الفرقان، وجرى نحو أميَّة؟!
إن كان فعل هذا غضبة لله، فلم لم يفعلها مع أبى جهل أو عتبة أو شيبة وباقى رؤوس الكفر الذين امتلأت بهم ساحة بدر عن آخرها؟؛ أيكون بلال قد أشرك غضبته لله بغضبته لنفسه؟، أيكون بلال أقل إخلاصا وأضعف فقها من أولئك الرفاق؟
وقبل أن استطرد فى تساؤلاتى انتبهت عن يسارى فإذا بـ "عبد الله بن مسعود"، ذاك الضعيف الذى صفعه أبو جهل فى مكة فقطع أذنه من عنف الصفعة، إذا به جاثم على صدر أبى جهل يقطع رأسه، ثم يجرها خلفه إلى رسول الله، الذى ضحك لما رآه وسأله عنها، فأجابه ابن مسعود فارحا منتصرا: "أُذُنٌ بأُذُنٍ والرأس زيادة"
وأفقت فإذا أمامى دينان، دين بلال وابن مسعود ودين الرفاق؛ دين يهذب الفطرة ويحترمها ويقدرها، ودين ينكرها ويلوى عنقها ليا حتى الموت؛ دين يحفظ لتابعه كرامته فيجعل غضبته لنفسه جزءًا من غضبته لله، ودين يأكل كرامة تابعه ويجعل غضبته لنفسه شريكا لغضبته لله.
فأى دين تختار لنفسك؟