أنا كاذب - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أنا كاذب

  نشر في 15 مارس 2016 .


يحدثني والدي عن ماضيه و عيناه تفيضان بطاقة سرد لم أعهده بها. أسمعه و هو يتحدث عن تفوقه في الصف و كل الصفوف. عن ذكائه يتحدث، عن جده و كده و تميزه في الدراسة و الحياة، عن كل شيء جميل في ذلك الزمن الجميل، و كيف أن كل شيء كان جميلا. أرى كلامه يأخذه إلى ذلك الماضي. أكاد أرى ماضيه لشد ما يسرد بكل ما أوتي من قدرة التنقل الذهني عبر المكان و الزمان. أبي لا يتحدث عن ماضيه إلا نادرا، و حين يفعل، تتلألأ عيناه، يستمتع بكل كلمة يقولها. لا أدري أ يحكي ليشاركني ما حدث، أو ليعيش كل شيء من جديد. يتسلل من حاضره، كسجين لم يعتد على زنزانته بعد، يحاول أن يستنشق أكبر قسط من الهواء قبل العودة. يأخذني معه، فأرى ما يرى. هناك فقط مشكلة صغيرة: أنا لا أصدقه. لا شيء فيه الآن يدل على صحة كلامه، و أنا الشاهد. فأعود إلى الحاضر غير ملام. أعود بجرح طفيف في المنطق و الذاكرة.

هل يكذب أبي؟ ربما. إمكانية طرح السؤال أصلا تجعله كذلك.

و لكن إذا صح في تصوري أنه يكذب، فكيف يصح في تصور من أحدثهم عن ماضي أني صادق ؟ أنا مع ذلك أفضل حالا منه. فبينما يتكبد عناء السفر إلى الستينات، يقطن ماضي غير بعيد: في الألفين، و في ذلك مؤشر على أن الرابط لم ينقطع بعد. الحاضر فاضح، لكن أدوات البراءة تكمن في القرب. الناس هم الرابط. كلما كثرت الرؤوس التي تومئ بالإيجاب، صرت صادقا أكثر. و هناك أيضا ورقاتك الرابحة: أولئك الذين يسردون بدلا عنك، و يذكرونك بالمزيد، و يجدون لك الخلاصات الواسعة الضيقة: كم كان ماضيك مختلفا، رغم أنهم لا يدركون كم كان مختلفا في عينيك...

غير أن الناس لا يصونون ذاكراتهم، أو ينظفونها باستمرار. أو هي صورنا الحالية تصدم تلك القديمة، بدعم منا، نحن من نحرص على الآنية حتى نستطيع البقاء. و حتى إذا علقت في الذهن، فهناك من لا يجرؤ على الإستشهاد بالماضي، أحيانا لأن الهوة بين ما كان وما يكون تصير كبيرة بالقدر الذي يجعل الذكرى مؤلمة: حضيض و اطمئنان، خير من الحضيض و الألم. هناك أيضا من يقصد النسيان، ميكانيكي بالفطرة. يؤمن بأن هذا الحاضر ولد من الماضي، و لا يشذ عنه، و يجد في ذلك تصحيحا للماضي. الصواب يستلزم الصواب. أ ليست هذه هي الرياضيات التي جعلها إنشتاين مرجعا لكل ما يجري في الكون؟ المهم أن الناس لا يحفظون ذاكراتهم: شفقة، استغرابا، تشكيكا في الماضي، انتقاما أو سخرية... لا فرق، ما دام الماضي غائبا. إن يعد يشهدوا و يقولوا: هذا ماضيك. و إلا، فقد ضاع الماضي و الحاضر، و أنا بذلك كاذب.                                                                                                                                                    أنا كاذب إذا... تماما مثل والدي، أنا كاذب.



   نشر في 15 مارس 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا