ويحدث أن يمتلئ قلبك بأحدهم , ولكنه ليس بمجرد كائناً يسير بأقدام بشرية وحسب , لقد إنطفئ بالكامل ! , وما يمنحه بعض الضياء هو أنه يسكن نبضك , يحتمي به من العراء , يستتر خلف ضلوعك من عتمة ليله الأبدية , هو على يقين أن شمس نهاره لن تشرق يوماً لكنه لم يجد سواك ليتنسم منه بعضاً من نسمات الحياة ..
هو المنطفئ حقاً ولكن حالك معه هو الأمر الكفيل بإنطفائك أنت ! , هذا ما يتبادر لأذهان كل من يراكما معاً , يُخيل للبشرية بأكملها أنه هو المصدر الأول والأخير لتبدد راحتك وسحق سعادتك , حتى تقف أمام حُسبانهم هذا وقد وصلت الحيرة فيك لأقصاها ! , فلا تدري .. هل وجوده بداخلك وإحتماءه بك هو ما يمنحك الأمان قبل أن يمنحه هو الأمان والسكينة ؟ , أم أن إلتحامك بروحه يُفقدك بريق الحياة فيك ؟! , لا تدري هل أصابوا في حُسبانهم للمرة الأولى في تاريخهم أم أنهم أخطأوا في التقدير هذه المرة أيضاً ؟! ..
ليس بغريب أن تعشق قلباً سلبت منه الحياة إتزان نبضه , بل دمرت فيه البهجة والنشوة باللحظة , فأما الغريب حقاً هو ألا تتفهم كيف تصل معه في كل لحظة إنطفاء إلى معاني أخرى في العشق ! , وكأنها معاني وليدة اللحظة بينكما , خٌلقت لأجلكما , وفي كل لحظة تجده يذبل ويتساقط ولا يقوى حتى على حمل أنفاسه بجوفه .. تجد قلبك تلقائياً يُضاعف هيامه به , وكأنه لم يذق طعماً للحب لغيره , وكأنه لن تدب به الحياة إن تلاشى من الوجود , وأما عنه , فتجد أن مجرد إنبساط جفونه عن بعضها البعض يُشكل ثقلاً قاسياً يُدمر ما تبقى من ثباته , ويا لها من مهمة شاقة ! , فهي تؤدي للرؤية , وما أبغض الرؤية على روحه , ظل هارباً من واقعه منذ أن فطره الخالق , فكيف له أن يعود له بإرادته ؟! , ولكنه وبعد كل ما مر به من ألم وتشتت وهلاك , يظل صاحب البصمة الأولى والأخيرة على باب مدينة روحك , تلك المدينة المُشيدة بإحكام , يستحيل أن تُفتح أقفالها إلا أمام من حمل مفاتيحها , وهو وحده الحامل لهم ..
مضطرب , هائج , سعادته تكمن في جنون منطقه , تجده أتعس البشر بما يحمله في عقله من فلسفة قاضية على سلامته , حر , ولكن حريته من نوع خاص , حريته تتضح في عزلته عن خلق الله , لم يجد فيهم من يتقاسم معه خبز فكره , بل وجدهم وحوش تتصارع على نهش بقايا إتزانه , إتزانه الذي لم ينعم به لحظة , فهو منذ أن خُلق وهو يتسائل ويتسائل , عن معناه , وعن جدوى تلك المتاهة التي نحياها ولا ندري كيف النجاة منها , وهل من منتهى لها أم أننا نُضيع أعمارنا في العدم ؟! , تتهافت على عقله التساؤلات وكأنها فيضان , فيضان إنقطع لدهور وعندما سال فاعلم أنه لن يسيل بهدوء , بل يجرف البشرية برمتها دون أن يشعر ببعض الشفقة تجاهها ! , جرفت الأفكار سلامة عقله , فـ شاخت روحه , ومع إشتداد العاصفة تبدل , أصبح قابضاً على مبدأه وكأنه يسير بدرب لا يخلو منه " قُطاع الطرق " , الكل يتسارع على سرقته , وهم في ذلك قناصون محترفون للغاية , فلا أثمن من مبدأه يمكن أن يجدوه حتى يصبحوا أثرياء المجرة , وهو بما يحمله مسكين ! , وحيد , يتطلع نحو الأفق آملاً أن يجد من يحمي ظهره فقط أثناء سيره بدروبه الموحشة , لم يطمع في كنوز الياقوت والمرجان , كانت أحلامه أبسط من أن تُذكر حتى ! .. فقط أن يحيا بسلام , يحيا بسلام دون الفتك به والسبب هو إختلافه , فقط ! , يحيا بسلام دون أن تتشاجر أيادي القسوة عليه و أياً منها يبدأ بإفتراسه أولاً , تحطمت آماله أمام ما يجده من البشرية حوله , وأصبحت الوحدة ملجأه الوحيد , الأمن , الساكن , الراقي , ولكن .. ثمة قلب إنتفض من أجله , من أجل ذلك المنطفئ الوحيد , الذي وجد في ما انطفئ فيه شعلة حيويته , ووجد في وحدته أنيس حياته وما بعد مماته ..
عجيب أن تعشق هذا البشري المختلف , عجيب أن تجد راحتك تتلخص بقربه وحده دون غيره , عجيب أن تُلحم مصيرك بمصيره وكأنه البوصلة لك وأنت الضائع الباحث عن سبيلك الصحيح , والحق أنه هو الغارق بضياعه ولكنك تراه الناجي الوحيد وبه تكتمل نجاتك , تتسائل أنت الأخر , كيف له أن يسكن روحك إلى هذا الحد ؟ , إلى الحد الذي تجد أن حتى لحزنه طعماً مختلفاً يجعلك تتذوق به الحياة , طعماً لم تتذوقه من قبل , كقدر إختلافه ! , كيف تجد في لحظات صمته حديثاً لروحك ؟! , كيف تجد لذة لطالما إفتقدتها؟! , تجدها فقط عند رؤيته , وإن كنت تراه يبكي من فرط ألمه , فـ مع كل قطرة يذرفها تتشكل مشاعر أخرى بقلبك تُزيد من عقد حبال عشقك , أصبحت الهائم بخطواته ولا تجد في ذلك عيباً لتُعلنه أمام الكون , أمام البشر الذين أفقدوه قدرته على الحديث , أفقدوه قدرته على التماسك , أفقدوه قدرته على العيش بسلام , أي أنهم أفقدوه حقه البسيط الذي لم يُطالب الحياة سواه ! ..
فتُعلنها بمنتهى الصرامة والجدية والصدق .. نعم أحبه .. وما لي خياراً أخر , ولا أدري لمَ هو بالتحديد , ولا أود أن أدري من الأساس ! , لقد قُذف حبه بين ثنايا نبضي وإنتهى الأمر , أصبحت ملجأه , وأصبح أماني وإن كان يفتقد للأمان .. أصبحت سكينته , وأصبح موطني وإن كان عابراً بين دروب الحياة ولا مُستقراً له .. أصبحت سلامه , وأصبح إنتصاري وإن كان خاسراً لمعركته أمام البشرية .. صمته يُفجر أحاديث بين أرواحنا , وثرثرته تُسعد قلب لطالما أدمن نبرته , وإن تباعدت المسافات بين قلبينا تظل أرواحنا متشابكة عالقة ببعضها تأبى الإنفصال , وكأن مولدها ونهايتها سُجلت بموعد واحد ..
نعم لن يمل القلب من حزنه النبيل , من ملامحه المتعرجة التي تحمل في طياتها ملامح أخرى لن يراها سوى قلباً أحبه بصدق , ملامح فارس مغوار ظل يحارب حتى النهاية , لن يتخلل الضيق صدراً حمل تفاصيله بين ضلوعه وأخفاها عن الوجود , الحق أن الوجود لم يره بحقيقته كما رأته عيون رفيقه , رفيقه الروحي , لم تره الحياة إلا كما أرادت أن تراه , مُزيف , على غير أصله , يتلون بألوانها هي وأما عنه فغير مسموح له أن يود أن يكون من الأساس ! , وبرغم الصمت السائد بين الكلمات , التي لم تصمد طويلاً أمام ألمه الشاق , والحروف المُقيدة على أعتاب الشفاة , وبرغم النظرات المتجمدة الباغضة تفحص الواقع حوله , ذلك الواقع الذي إنغمس فيه بكل كيانه ولم يجد مفراً منه بعد , وبرغم اللحظة باهتة المعنى , التي تتطابق مع لحظات الأمس والغد , والإنتظار القاتل , برغم كل الصراعات والتقلبات , برغم مرارة التحرر من كل قيد فرضه المنطق عليه , وبرغم إرتعاشة روحه .. لن يسكت اللسان عن السؤال .. ما بك ؟ .. وإن لم يجد إجابة ووجد لسانه قد شُلت حركته بفعل قسوة الحياة عليه , فلن يمل من محو ألمه ببعض الكلمات البسيطة .. لا تخف , لن أتركك .. لن تهدأ الروح عن شدو ألحان حنينها له , لن تنفر النظرات عنه , بل تزداد بريقاً ولمعة حينما تراه وفقط , وكأنها اختزلت البشر فيه وحده , ودونه هم أمواتاً لا جدوى منهم , لن تشعر اليد بقيمتها إلا حينما تمسح على نبض مالكها فتجده يستقر به , ساكناً فيه يأبى الرحيل ..
أحببته ولن أتهرب من مواجهة الكون معه , بكل بشاعته , بكل هذيانه , بكل شحوبه , فما من مهرب عنه , وما من حبيب بعده ..
ولتكونوا لأحبتكم نوراً , ضياءاً يشتعل فيُشعل فيهم الحياة من جديد , فلن يصل الحب لمعناه الحقيقي إلا بقلب أقسم على أن يكون العون والسند لرفيقه , وقلب وجد ملجأه الوحيد بين نبضه , بهما تكتمل معادلة الحب , وبهما يدوم لما بعد الأبد ..
التعليقات
احسنتى وابدعتى د / نورا