الله والإنسان والعالم، بين ديكارت والمسيحية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الله والإنسان والعالم، بين ديكارت والمسيحية

هل تأثّرت عقلانية ديكارت في إثبات نفسه والله والعالم بالثالوث المسيحي؟ وهل يمكن أن نعتبر فلسفته إعلاءاً للمسيحية أم نقداً لها؟

  نشر في 02 ديسمبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

رينيه ديكارت (1596-1650) هو فيلسوف فرنسي ورياضي وعالم متميّز. درس في طفولته بمدرسة لافليش اليسوعية الشهيرة.

وقد كانت صياغته للمنهج خطوة أولى و أساسية لمعرفة الأشياء.

1) منهجه:

يمكننا أن نُجمل أن مذهبه يعتمد على طبيعة ثلاث عمليات عقلية، و هي: الشكّ، والحدس، والإستنباط.

لقد حوّل الشك لمنهج ينتهي به ليقين الحقيقة عن طريق الحدس Intuition، الذى هو تصوّر ينشأ في نفسٍ سليمة عن نور فطري طبيعي، يُمكّننا من إدراك الأفكار البسيطة غير المركبة، وهو هُنا يعتمد على مجموعة من البديهيات (قد كانت فى زمنه المبكر تعتبر حقائق واضحة بذاتها)، ومن البديهيات تبدأ عملية الإستنباط كي يصل لمجموعة من النظريات عن طريق خطوات منطقية صارمة.

وقد اثبت من خلال منهجه اليقينات الثلاثة :

2) اليقينات الثلاثة "فلسفته":

   أ/ الإنسان عند ديكارت:

بدأ ديكارت يشكّ في كل شيء يمكن الشكّ فيه بدون أن يفترض وجوده.

لقد وَجَدَ أنّه من الممكن نظرياً أن يشكّ في شهادة حواسه، وذاكرته، وأفكاره، ووجود العالم الخارجي، وحتى في صدق الحقائق الرياضية (فربما يحلم أو أنّ شيطاناً شريراً يخدعه).

ومع ذلك فقد وَجد شيئاً لا يمكنه الشكّ فيه - وهو أنه 'يشكّ'. يشكّ أي يفكّر. وبذلك حَدَسَ مباشرةً: أنا أفكر، إذن أنا موجود.

ثُمّ اتجه لسؤالٍ تال، عن هذا الشيء، الموجود، الذي يفكر، ما عساه أن يكون؟ يفكّر: أي يشكّ ويفهم ويتصوّر وينكر ويريد ويرفض ويتخيل ويشعر.. الشيء الذي يفعل ذلك كله لابد أن يكون "نَفْساً Soul"؛ أي جوهراً روحياً. التفكير صفته الأساسية؛ أي أنّه "عقل" وهو لا يمكن أن يكون مادياً له صفة "الإمتداد"، لأنّ النفس تبقى بعد فناء البدن. وهنا ميّز النفس عن البدن.

    ب/ الله عند ديكارت:

الشك يحتاج ذاتاً تشكّ، وإدراك الإنسان لشكّه هو إدراك لنقصه، ونقصه هذا يقاس لتصوّر شيء تام الكمال -بحسب السببية- ألقى هذا التصوّر في نفس الإنسان (لأنه لا يمكن لناقص خلق فكرة عن الكمال).

فهو باستطاعته -ديكارت- أن يتصوّر موجوداً كاملاً بصورة مطلقة. وأنّ هذه الفكرة لا يمكن على الإطلاق أن تتطور في الوعي البشري إذا لم تكن هناك علّة تكفي لإنتاجها (الجوهر الذي يلازمها). فاللّه هو الذي وضع هذه الفكرة في عقله: إذن الله موجود. وكل الأفكار التي تأتي عنه وعن العالم هو الذي خلقها.

لقد عرّف ديكارت الجوهر أنّه: شيء موجود لا يحتاج إلى شيء سوى نفسه لكي يوجد. ولا ينطبق هذا التعريف تماماً إلا على الله فقط كموجود يقوم بذاته على نحو مطلق.

ويضيف أننا يمكن أن ننظر إلى العقل (الإنسان) والمادة (العالم) على أنهما جوهران بمعنى ما، لأنهما لا يحتاجان إلّا إلى عون من الله لكي يوجدا (وهذا تفسير لعلاقة الله بالإنسان والعالم): كلاهما كاملان ومكتفيان بذاتهما، ولكل منهما صفة واحدة أساسية: التفكير، والإمتداد.

والله هو خالق العقل والمادة، بالمعنى المزدوج، فهو أوجدهما في المكان ويستمر في حفظهما في الوجود. فهما يعتمدان عليه في حين لا يعتمد هو عليهما. فهو يختلف عن الأرواح الأخرى في كونه لا متناهياً وموجوداً بذاته.

وهنا: يمكن أن نضيف في علاقة الله بالإنسان التي تحدّث عنها ديكارت: أن هناك حقائق، لا يكون البحث فيها إلا بمدد غير عادي من السماء يرتفع بها لعقيدة معصومة من كل خطأ، وهي الحقائق الدينية (التي تهدي إلى الجنة - فيما يقول في القسم الأول من مقاله) : لأنها فوق متناول العقل، ولذلك استثناها من منهجه القائم على الحدس والإستنباط، وجعل الإيمان بها من أفعال الإرادة لا من عمل العقل.

   جـ/ العالم عند ديكارت:

بما أنّ الله هو الذي صدرت عنه أفكارنا، وهو موجوداً كاملاً على نحو مطلق، فلا يمكن أن يكون مخادعاً (لأن الخداع نقص). فقد منح الناس العقل (متساوياً وهو الأعدل قسمة بين البشر) بنوره الطبيعي، الذي يستخدم أفكاراً واضحة ومتميّزة لكي تكون مصدراً يقينياً ومستقلاً للمعرفة. وبدونه لا يمكن لأحد التيقن من ماضيه أو القوانين الطبيعية أو أي شيء آخر إلا للحظة عابرة، طالما ليس لديه أساس للثقة  في ذاكرته وقواه البرهانية. والخطأ البشري يرجع للخداع الذاتي في قبول الأحكام.

إذن يُمكن الإطمئنان للعقل وتصديق أحكامه على ما نراه ونحسّه، وأن نثق في وجود البدن ووجود الموضوعات الخارجية. إلّا أنّ إدراكها عبر الحواس هو إدراك غامض وقد يؤدي للوقوع في الخطأ، لكن إذا استخدمنا النور الطبيعي للعقل فإننا قد نميّز كثيراً من طبيعة الموضوعات الخارجية.

أمّا الصفة الجوهرية للجوهر المادي هو خواصه الرياضية: "الإمتداد Extension"؛ أي ما هو موجود في المادة ويمكن فهمه بوضوح وتميّز عن طريق العقل المدرّب تدريباً علمياً. والمادة متحركة بإطراد. وقد تحدث ديكارت عن بقاء الكتلة والطاقة.

أمّا علاقة العالم باللّه: أن الله خلق المادة، والعلماء والفلاسفة لا يمكنهم أن يكتشفوا الغايات الإلهية (التي إن وجدت فهي مبهمة ومعرفتها لا تفيد في الأغراض الخاصة بالعلم)، ويجب عليهم أن يحصروا أنفسهم في دراسة العلل الفاعلة. فإن الطبيعة تحكمها قوانين آلية يمكن ملاحظتها ووصفها: لا يمكن استنباطها من المعرفة التي تكون لدينا عن الله، بل يجب التحقق منها عن طريق الأبحاث العلمية.

وعلاقة العالم بالإنسان: أنّ الإنسان يستقبل إحساسات وأفكاراً غامضة نتيجة إثارة الموضوعات الخارجية وأعضاء الجسم عن طريق الإرادة "التأثير المتبادل".


3) ديكارت والثالوث المسيحي:

  أ/ لقد بدأ ديكارت، في فلسفته، بإثبات نفسه أولاً: لأنها هي التي يبدأ من عندها البحث. فهو ترتيب منطقي لا ينفي أن الله هو قمة اليقينات والأولويات.

فإن سعي الإنسان لمعرفة الله بالتفكير المنطقي حول الأشياء المنظورة في العالم، لا يهيّئ إلّا فكرة ناقصة عن الله. فمن أين يأتي الجواب إلا من الله ذاته؟ وهذا هو ما أكّده ديكارت عندما أعلى من الحقائق الدينية أو الوحي (الذي هو بمدد من الله) على العقل (الذي لا يتجاوز ميدانه الحقائق الفلسفية). ويتضح هذا أيضاً عندما أقام حدوداً بين العلم والدين: أنّ العلم يعجز عن معرفة الغايات الإلهية في العالم. فاللّه ذاته هو من يعطينا الإجابات.

   ب/ أمّا الديانة المسيحية، وهي دين سماوي، مصدره الكتاب المقدّس، فقد قدّمت هذه الإجابات التي يمكن القول أن ديكارت قد فتح الباب لها.

ففي اللاهوت المسيحي يوجد ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، والروح القُدس. والثلاثة: إله واحد، جوهر واحد، متساوون في القدرة والمجد.

1. الله: هو خالق كل الموجودات بكلمة قدرته. وهو واحد، مصدر الحياة والحق والخير في العالم. وقد جاء اليوم الذي نزل الله فيه لهذه الأرض: كي يخلّص البشر من الآثام، بعدما ألقى الكلمة للعذراء مريم ليكون عيسى المسيح.

والكلمة كان من عند الله، والكلمة هو الله. فالله يفكر، وفكره هو "كلمة"، وهذا الفكر يُولد فيسمى بذلك "ابناً". وأخيراً يعبّر هذا الكلمة أو الابن عن شخصية الله، فيكون بهذا: الروح القُدس.

2. المسيح: بذلك ظهر الله في الإنسان يسوع المسيح، وحلّت في الأخير الطبيعتين: الإلهية والإنسانية. فالكلمة هو إعلان ودليل عن ذات الله وصفاته وطبيعته بوضوح وجلاء في يسوع. وبالكلمة خلق كل شيء، وهو مصدر الحكمة في العالم. فالمسيح هو كلمة الله وروحه.

3. أمّا الروح القُدس والأب، فقد اشتركا مع الابن الكلمة في تهيئة الجسد (الذي اتخذه من العذراء مريم)، فخرج للعالم يحمل ويشارك في طبيعة وصفات الله لأنّه وُلد صورة كاملة للأب ومتماثل في صفاته.

فالروح القدس هو روح شخصي مُحبّ للبشر. شارك الأب لتجسّد الابن الكلمة. وهي المعبّرة عن شخصية الله: والحياة التي يحملها المسيح: وحضور الله معنا وقُربه منّا.

    جـ/ يمكن أن نستنتج من كل ما سبق:-

1. أن تصوّر الله في فلسفة ديكارت يتماشى مع تصوّر الدين له: موجود كامل يتضمّن كل الكمالات، أزلي دائم لا متناه، علّة لذاته وليس معلولاً لغيره، ابدع الأشياء كلّها وعنه صدرت الكمالات والحقائق جميعاً... إلخ.

وموقعه من فلسفة ديكارت أنّه ضروري ومركزي: تنهار الأنا العاقلة والعالم بدونه (فالإنسان هو حاصل عن فكرة الله، والبرهان على وجود المادة يعتمد على تصوّر الله وليس على حواسنا)، مثلما هو الله مركزياً في الدين.

2. أمّا العقل فقد وَجد فكرة الموجود الكامل بداخله (وبطبيعته)، كما هو في المسيحية أنّ الله وُجد/ ظَهَر في الإنسان: يسوع. فالعقل بهذا الشكل هو أيضاً إعلان ودليل عن الله وصفاته بوضوح وجلاء (مثل المسيح).

فاللّه موجود في عقل الإنسان: لأنّ من طبيعة العقل أنّ له جوهر روحي (وقد تحدّث ديكارت عن فكرة خلود النفس، وهي فكرة دينية بحتة لم يقدم دليلاً عقلياً عليها)، مثلما يشارك المسيح في الطبيعة الإلهية.

ومن جهة أخرى، فقد جاء العقل من الله، وكل أفكاره هي من عند الله، تماماً مثل الكلمة الذي هو من عند الله، وهو مصدر الحكمة في العالم.

وبذلك نرى أن العقل (في اليقين الأول الذي وصل له ديكارت) يساوي "الكلمة" التي هي المسيح (في العقيدة المسيحية). والله خالقه.

3. أخيراً، فالوجود عند ديكارت يتألف من ثلاثة موجودات، هم: الله والعقل والمادة. وفي المسيحية، فالكون فيه ثلاثة أقانيم: الأب، الابن، الروح القُدس.

     ويمكن أن نستخلص هنا: أنّ رينيه ديكارت قد تأثّر في فلسفته (وتصوّراته للموجودات) بعقيدة الثالوث في المسيحية. ويمكن تبرير هذا، أولاً: بأنه لا يجب علينا أن نفصل ديكارت عن عصره المبكّر في القرن السابع عشر الأوروبي، وبقايا أفكار العصر اللاهوتي. وثانياً: نظراً لإعلاء ديكارت لحقائق الدين المقدس (أو الوحي) على العقل. ثالثاً: بالنظر لواقع أنّه دان منذ صغره بتعاليم الدين وتقاليده وحرصه على إرضاء رجال الكنيسة، وقد ردّ بعض مؤرخيه لهذا إتفاق فلسفته مع أسرار الدين. إلّا أنّه بالرغم من تدعيمه للآراء الدينية التقليدية بشكل عقلي، لكنّه أيضاً فتح الباب أمام البحث العلمي الخالص. وبذلك توِّج "أبّـاً" للفلسفة الحديثة.


4) المراجع:

- تاريخ الفلسفة الحديثة، وليم كلي رايت، ترجمة: محمود سيد أحمد، ط1 التنوير 2010.

- أديان العالم، حبيب سعيد ، الكنيسة الأسقفية بالقاهرة.

- مدخل في تاريخ الأديان، د/ سعيد مراد، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية.

- ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ط4- 2014، التنوير. ترجمة: أ.د/ إمام عبد الفتاح إمام.

- قصة النزاع بين الدين والفلسفة، د/ توفيق الطويل، مكتبة الآداب.


  • 3

  • Ahmad Mahdaly
    بحثي هو مجرد مدخل لقراءة العقول الفلسفية، والعوامل التي كوّنتها ونتجت عنها. من إيماني أن التاريخ قابل للتعلم وللفهم، فأحاول أن أقدم محاولة لهذا الفهم.
   نشر في 02 ديسمبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا