العُمْر عُمران؛ العمر المجازيّ المسطور في البطاقة الشخصية والذي يبدأ بلحظة الميلاد وينتهي بخروج الروح حين الوفاة، والعُمْر الفِعليّ المسطور في صحائف الأعمال والذي يُولَد مع سنّ التكليف ويَدوم حتى قيام الساعة، العمر الفعلي لا يعلم مداه إلا علّام الغيوب، أما العمر المجازيّ فيكفيك نظرة على روزنامة الحائط أو ساعة اليد لتدرك أبعاده وتسبر أغواره.
اليوم دقَّتْ عقارب ساعتي ولوَّحتْ لي وريقات روزنامتي مُعلِنة بلوغي خمسين سنة... أي ثمانية عشر ألف يوم...وما يقارب النصف مليون ساعة...فهكذا تحصينا الأيام بقدر ما نحصيها، وتلهث وراءَنا وتتعقّبنا بأسرع مِن عَدْوِنا خلفها ولهاثِنا وراءها، لتطَأ بسنابك خيلها مِهاد الطفولة وملاعب الصِّبا وأحلام الشباب؛ فتضْحى أثرا بعد عين وذكرى بعد حياة وطيْفا بعد واقع.
خمسون عاما هي رحلة العمر وحصاد السنين، بين مولد في العام الخامس والستين بعد المائة التاسعة عشرة في أحضان ريف مصر وبين تلك اللحظة الخمسينيّة الراهنة على سواحل سلطنة عمان، مَضتْ تلك السنون كالبرق وذهبتْ مع الريح، ويعلم الله وحده أكانت خمسين شتاء أم ربيعا، وخمسين انتصارا أم انكسارا، وخمسين ظلّا أم قيْظا.
بالطبع لم يكن أفضل ما فيها؛ تلك الأيام الثريّة التي أُتخِمتْ خلالها بطاقاتي البنكيّة بالرصيد، ولا تلك السويعات الهانئة التي قضيتُها في مقاعد الدرجة الأولى بين الأرض والسماء، ولا تلك الليالي الحالمة التي أمْضيتُها في أفخر الفنادق الخليجيّة، ولا يوم تخرجّي الميمون في الكليّة الطبيّة، ولا يوم شرائي لفخر السيارات اليابانية...فكل هذه أشياء، وأفضل ما في الحياة ليس بأشياء.
بل كان أفضل ما فيها، تلك اللحظات الفريدة التي حلّقَتْ فيها الروح؛ فعانقْنا الفرح وراقصْنا الحُلم وغمَرتْنا زخّاتُ السعادة، وذلك حين خلعْنا أحذية الطفولة وصنعْنا بها مرمَى، وحين حشونا جواربنا القديمة أقمشة عتيقة وجعلناها كرة، وحين نحتْنا مزاميرنا من صلب أعواد البرسيم، وحين ألقمْنا سنانيرنا ديدان الصيد التي نقّبْنا عنها في جوف الطين، وحين ملأْنا قواريرنا صمْغا من لحاء أشجار السَّنط، وحين ملأنا صدورنا بهواء الريف النقي وأطلقنا سيقاننا لرياحه الطيِّبة الزكيِّة.
أمّا أجمل وأنبل ما فيها، فكانت تلك المواقف الآسرة التي تتفتّح فيها أبواب النفوس وتنداح نوافذ الذات؛ فتفرح القرية كلّها وتنطلق أغاريدها احتفاء بزواج أحد أبنائها بينما تحزن عن بكرة أبيها وتغلق تلفازها لأن الجار السابع قد فارق الحياة، فضْلا عن تسابُق الأيدي للمواساة في ماشية مريضة، وتزاحُم الأكتاف لإخماد حريق أو حصاد زرع أو بناء بيت أو حتى ختان طفل.
ولّتْ خمسون عاما، ومعها فقدْنا نصف السعادة وشطر الفرح، وذلك حين لم نعُدْ نزرع ما نأكل ولا نصنع ما نلعب ولا نخيط ما نلبس ولا ننظِم ما نغنِّي ولا نؤلِّف ما نحكِي، ولّتْ العقود الخمس ومضى معها الدفء والأمان حين قضَمَتْ الغُربة أيامنا وهضَمتْ المادّة نفوسنا وامتصّتْ الأنانيّة ما تبقّى مِن فطرتنا.
وداعا أيتها السنين المنصرمة، سقى الله أيامكِ بالمغفرة وطيَّب الله ثراكِ بالرحمة، وعسانا نعوّض في مقتبل أيامنا مافاتنا، فنقيل عثراتنا وننهَض مِن زلّاتنا ونُصلح ما تهدَّم في نفوسنا وأرواحنا.