لم أعطي الدراسات السيميولوجية أهميتها الكبري التي تستحقها إلا حينما شاهدت عرض بلغة أجنبية عني وهي "اللغة الإيطالية" دون وجود ترجمة ولو باللغة الإنجليزية وهو ما ساعدني في فهم شفرات و لغز العرض ، عرض "عشيرة ماكبث" للمخرج "دانيال إسكاتينا" الذي قدم ضمن عروض مهرجان القاهرة التجريبي و المعاصر في دورته ال 23 تناول خالدة شكسبير " ماكبث" ولكن ببعد نفسي خالص عن طريق إزاحه معظم الشخصيات و عدم الإبقاء إلا علي ماكبث و زوجته و التلميح للشخصيات الآخري مجمعة في شخصية "الجوكر".

تدور أحداث العرض بشكل مكثف وسريع حول وجود أصوات شبحية وهمهات بالإضافة إلي حفيف الأشجار مما يشير للساحرات الثلاثة الذين قاموا بالتنبؤ لماكبث بمستقبله ، ثم نجد شخصية الجوكر مكملة لكل من ماكبث وزوجته فقلق ماكبث حول نبوءة الساحرات وإرتدائه لملابسه لم يتم بدون مساعدة الجوكر ، واثناء تحريض الليدي ماكبث له علي قتل الملك نجد الجوكر يعكس رغباتها بحركاته الجسدية وحينما يمتد الصراع بين الأثنين يجلس الجوكر علي كرسي العرش يراقبهما في فرحة شيطانية غامرة و بسقوطهم يسقط هو أيضا و ينتهي العرض .

أود أن أوضح سبب تسميتي للشخصية " بالجوكر " وليس المهرج و المرادف له باللغة الإنجليزية Clownوذلك في عدة أسباب يعرف في جميع الثقافات أن ورقة الجوكر في لعبة الورق " الكوتشينة" تتمكن من القضاء علي باقي الأوراق و هو ما تم هنا فعندما اختزلت الشخصيات الآخري من النص الأصلي لشكسبير تم معالجة الأمر بجعل الجوكر يقوم بهم فبإرتدائه لثلاثة أقنعة متشابهة يؤكد علي حضور شخصية الساحرات الثلاث ، السبب الثاني انه لا يوجد مرادف باللغة العربية للكلمة الجوكر لانها أعجمية الأصل وصولا للسبب الآخير و إن كان أهمهم وهو البعد التاريخي في هذه الشخصية فقد ظهرت في أول مرة عام 1940 في دي سي كوميكس ثم في سلسلة تلفزيونية لمسلسل باتمان وصولا لذات الوجه القناعي الذي ارتداه الشاب " هيث ليدجر" حين قيامه بشخصية الجوكر العدو اللدود لشخصية البطل "باتمان" .

كانت شخصية الجوكر في المسرحية حاصلة علي ذات دورها في فيلم The dark knight فهي شخصية تؤمن بأن الشرور والنزاعات المتطرفة توجد في داخل أصحابها ولكن لا يجرؤون علي البوح بها بسبب اللوائح والقوانين ، ماكبث كذلك فمنذ سماعه لأصوات الساحرات ونحن نراه يريد الحصول علي التاج الموجود علي خشبة المسرح ولكنه يستمر في حالة من المد و الجذر إلي أن يتشبث به وهنا نري الجوكر يمهد له الأمور بإحضاره زوجته التي تحاول إثارته جنسيا من أجل الحصول علي التاج ، انعكست موافقة و رضوخ ماكبث علي شخصية الجوكر فحينما دخل ماكبث للكواليس حاملا لخنجره تبدأ الموسيقي في العزف ويبدأ الجوكر في الرقص بنظرات مترقبة إلي أن يصل للحظة السكينة وهي قدوم الليدي ماكبث علي خشبة المسرح ويديها ممتلئة بالدماء والتي تضعها علي وجه زوجها وهنا يجلس الجوكر بطمأنينة علي العرش .

بعد إستباحة المخرج للنص الكلاسيكي وجد انه قد قام بالتركيز علي البعد النفسي لشخصياته وتحولاتهم فنجد أن العلاقة بين " الجوكر و ماكبث " و بين "الجوكر و الليدي ماكبث " علاقة مرآوية ولجأت الإكسسوارات المسرحية البسيطة إلي تأكيد هذا الأمر فحينما أصبح ماكبث هو الملك قام الجوكر بإرتداء التاج علي رأسه كذلك حينما يظهر ماكبث في صورة هشة دون اي نفوذ يتصدع من الآلم علي خشبة المسرح نجد الجوكر خلفة يتناول "قلبا" يشبه القلب الحقيقي للإنسان ويشرع في قطمه وتناوله تجسيدا لندم ماكبث علي قتل رفيقه وكذلك حينما اراد إبراز تحكم الجوكر بماكبث جلس الجوكر علي العرش وأخذ ينفخ فقاقيع الهواء لا مباليا أثناء صراعات ماكبث الداخلية، و بالمثل مع الليدي فحينما تصاب بمس من الجنون وتسير هائمة علي الخشبة نجد الجوكر يسير في حالة موازية تماما لها في عمق المسرح وحينما تسقط يسقط الجوكر معها في ذات اللحظة .

الفضاء الصوتي أهم ما يميز العرض علي مستوي المؤثرات الصوتية أو الإغاني المصاحبة و التي يغنيها الأبطال علي خشبة المسرح ، حينما تنتصر رؤية الجوكر بأن لكل منا بعد شيطاني مُخبأ جيدا تبدأ موسيقي الراب ويبدأ معها بالغناء مع حركات سريعة وهو ما اضفي حالة من المرح والضحك وسط المتلقين دون إدراكنا لمعاني الكلمات ولعل في هذه المنطقة قد وظف الممثل ذكاؤه الخاص من اجل التهكم علي أحد الحضور الذي تسبب بحالة من الضوضاء و المشاجرة أثناء العرض فوظف الممثل الأغنية لصالحه بالإشارة إلي صاحب الضوضاء علي وجه الخصوص وتوجيه الأغاني بشكل تهكمي له الأمر الذي جعل هذا المتلقي يغادر العرض ، ايضا لتجسيد الآلم النفسي الذي وضع ماكبث فيه كانت هناك أصوات تشبه همهمات الشيطان تتسبب في إرهاب ماكبث و حينما أرادت الليدي الإنتحار أخذت تغني بكل أوبرالي أغنبية حزينة .

الأبيض و الأسود لون أكتسح خشبة المسرح في جميع أنحاء العالم بنفس طرق دلالتهم المعروفة الأسود الشر و الكئابة و الأبيض حالة الصفاء الروحي أو الملائكية ، كان ماكبث مرتيدا ملابس بيضاء و لكن حينما سحرته الليدي يكلامها والتي كانت ترتدي فستان أسود تحول الأمر له بإرتداؤه جاكيت أسود حتي يتم الـتأكيد علي تلوثه وحينما تطهرت الليدي وأردات الإنتحار أتت في ثوب أبيض جديد و لعل هذا الأستخدام للدلالات الألوان رغم عد التجديد فيه هو ما تستحق الدراسات السميولوجية الثناء عليه لجعلنا نتمكن من قراءة العرض .

أصبح الممثل هنا هو أحد التشكيلات الأساسية في العرض لملؤه لفضاء خشبة المسرح ورغم عائق اللغة إلا انه بسبب الطاقات الجسدية وخاصة لشخصية "الجوكر" قد تمكن المتلقين من التفاعل معه ، وجب الذكر أن الحالة الخاصة ببنية العرض قامت بتكثيف النص علي نحو كبير مما أدي لتوالي عدد من الأزمنة بشكل متوالي ومتوازي دون اللجوء إلي طرحها علي خشبة المسرح و هو ما يستحق المخرج الثناء عليه فعلي عكس التناولات السابقة من حيث الجشع والرغبة في السلطة والحروب إلا انه هنا قد أولي كل أهتمامه للصراعات النفسية للشخصيتين سواء الرغبة في الوصول للحكم أو الرغبة في إنكار ما حدث و إرجاعهم لسابق عهدهم ، ومن أجل التكثيف فلم يوضع علي خشبة المسرح إلا كرسي العرش وكان مكانه في عمق فضاء خشبة المسرح مما يؤكد أن الرغبات الجنونية في الوصول إليه هي السبب في هذه الصراعات .

الإتيان بشخصية الجوكر يُعد ذكاء آخر للمخرج فآتيانه بشخصية لا وجود لها في النص الأصلي وتحميلها بعبء الشخصيات الآخري بالإضافة لهواجس كلا من ماكبث و الليدي ماكبث جعلنا لم نفقد الصلة بالنص الأصلي و في ذات الوقت لا ننفر من النص الجديد بل نشجعه و لعل ذلك كان السبب الأساسي لطرحه في المهرجان التجريبي ، وبذلك تكون قد اكتملت الدلالات المسرحية في وجود الموسيقي و الأداء الجسدي لخلق صورة مسرحية جيدة في حالة تواصل مع الجمهور في حدود ال 70 دقيقة .