غرد كروان ذات ليلة، سمع الجميع الصوت، لحن جميل صادق مفعم بالحزن والحنان، يشق سكون الليل غير عابئ بشيء، أصيب أهل القرية بالدهشة؛ كيف غرد الكروان بعد كل هذا الجفاء؟ فخرجوا مجذوبين إلى شوارع القرية وحقولها، تاركين أعمال السخرة الشاقة في أملاك العمدة والأعيان، كالسائرين نياما ظلوا يبحثون عن مصدر الصوت حتى بزوغ الفجر، ويهمسون بإعجاب فيما بينهم: من أين أتى الكروان بهذه الجرأة؟! وبحثوا طويلا حتى سكت الصوت فجأة كأنه لم يكن..
وفي الصباح اجتمع وجهاء القرية وأعيانها في دار العمدة، كانوا من القلق والغضب في نهاية، وتساءلوا وهم في غاية الحيرة، كيف سمعوا ذلك الصوت المزعج رغم ما اتخذوه من تدابير! كيف غرد مرة أخرى بعد غياب ظنوه أبديا؟ والأهم، كيف ترك الناس أعمالهم وانجذبوا إلى الصوت وخرجوا إلى الشارع! وفي نهاية اجتماعهم عزموا على ألا يتكرر ما حدث ليلة أمس مرة أخرى.
قيل قد يسكن الكروان غصون الشجر، فاقتلعوا كل شجرة من جذورها، قيل قد يتخذ من قمم النخيل منبرا لينشد لحنه اللعين، فلم يبقوا على نخلة واحدة!، وانطلقوا يعبثون ويدمرون وانتظروا الليل ليجنوا ثمرة شرهم الخبيثة، لكن غرد الكروان هازئا، ومرة أخرى انجذب الناس إليه فانتشرت الفوضى..
جن جنون العمدة والأعيان، أطلقوا الغفر لإلجام الناس، فارتكبوا من الجرائم أبشعها، واجهوا عزوف الناس عن العمل بالعصا والسياط، قُتل الكثيرون ممن انجذبوا إلى الصوت، وذهب بهم الجنون مذهبا، فأصدروا الأوامر بذبح كل طائر يمكنه التغريد ولو كان محببا إليهم، ثم تمادوا في خبلهم فلم يرحموا كل الطيور لعلها تكون متعاونة معه، لكن ظل اللحن يُنشد وظل الناس في انجذاب غير مباليين..
تمرد الناس على العمل، لم يرهبهم بطش العمدة وإجرام الأعيان الذين تعطلت مصالحهم بعد انتشار الفوضى، وفي أحد الأيام بعد أن كاد ييأس العمدة من القضاء على الكروان، ظفر بحل فذ سيمكنه من الهيمنة على القرية من جديد وإعادة كل شيء إلى أصله، وشرع فى تنفيذه دون تأخير..
جُمع الناس ليخطب فيهم شيوخ القرية ورجال دينها، قالوا أن سماع صوت الكروان آثما ويعد خروجا عن الدين، وأخذوا ينسجون القصص حول بشاعة الكروان في الدين والتاريخ، وكيف إنه منذ قديم الأزل مصدر للفتنة وإسالة الدماء، وقيل إنه تجسيد للشيطان، يروم هلاكهم، فمن إتبعه جلب لنفسه الهلاك في الدنيا والآخرة، وتفرق الجمع وهم في مقام الحيرة والتردد.
وعندما غرد الكروان مرة أخرى، لم يكن هناك من ينجذب إليه، فقد سد الجميع آذانهم، أصابهم الصمم برغبتهم، وظل الكروان يغرد كل ليلة وحيدا حزينا لا يسمعه أحد.
-
محمود عبد الهادينأمل أن تغير الكلمات شيئا