مع تقدم الإنسان في العمر ، تتضاءل رغائبه في الحياة لصالح أمنية واحدة، هي الخلود! الرغبة في الاستمرار والديمومة، هزيمة الفناء ، وإعدام النهايات. إنها نفسها الأمنية التي أخرجت آدم وحواء من الجنة، البحث عن الخلود وملك لا يبلى..
تتعدد طرائق الإنسان الناضج في البحث عن سبل تحقيق هذه الأمنية المستحيلة عمليا على وجه الأرض ، فمن الناس من يصبو إليها باللجوء الى التكاثر البيولوجي، إنجاب ذرية تحفظ الاسم وتضمن استمراريته مع تعاقب الأجيال، ولعله أضعف الإيمان! فيما يتشبث البعض بالشهرة والصيت الواسع ، ويذهب آخرون لتسنم ذرى المجد بإنجازات عظيمة تحفظ أسماءهم أبد الدهر ، وينزع الباقون نحو التضحية الجليلة في سبيل قيمة معنوية، لتمر ألقابهم عبر أكتاف الأغاني والأناشيد وتوشم بها العقول والأفئدة ردحا طويلا من الزمن..
ويبقى دونا عن كل هذه الطرائق والدروب، سبيل آخر أزعم أنه الأنفذ في طيّ ورقة الفناء، إنه درب الكتابة ! لطالما تساءلنا في حيرة عن السبب الذي نكتب لأجله .. وتبقى تلك الأسئلة كغصص تحيق بحلوقنا وأقلامنا ، فنعجل إليها بأنصاف الإجابات التي لا تروي ظمأ ولا تغني من عطش..
الآن فقط تبدى الجواب كحقيقة مسفرة بزغت في عين الشمس .. نحن نكتب من أجل الخلود لا لشيء آخر . وبغض النظر إذا ما كانت نصوصنا تجسده بجماليتها أو عمقها أو روعتها من عدمها، أو إذا كانت ستمكث في الأوعية إلى أبد الآبدين أم لا ، يبقى شرف المحاولة ماثلا، وثبات الهدف قائما، ورسوخ الرغبة واقعا ..
كلنا هنا أو في أي مساحة تدوين أخرى ورقية كانت أم إلكترونية، نصر على ممارسة طقوس الكتابة للغرض ذاته سواء عن وعي أو عن غير وعي، إننا بالتدوين نحاول وشم الزمن بحروفنا..بخلجاتنا والتحايل على أقانيم التغير فيه بتمرير أجزاء منا على جناح الحرف، عله يحلق بعيدا نحو الأبد ، أين تنتفي النهاية ويُشنق العدم. نزرع فسائل المعنى في تراب اللحظة آملين أن تنتنش وتعمر وتؤتي أكلها في مجاهل المستقبل .. نتأسى في هذا بمن سافرت فسائل حروفهم عبر الزمن ووصلتنا منها حدائق وجنات وبساتين .. كتاب كانوا قبلنا عرفوا طريقهم إلى الخلود ، وصلت إلينا أطياف أرواحهم محمولة على أكف حروفهم دون أن يمسها تطاول الزمن أو يعيبها تعاقب الحقب .. فتجسدت لنا بهواجسها وآلامها وأفراحها ومعارفها كأنها لم تفن أبدا..!
بهذا الأمل فقط .. نرسل حروفنا كأسراب الحمام لتسبقنا إلى عوالم المستقبل، علها تجد بين أرواح لم توجد بعد قبولا وترحابا ، و تعثر في قلوب لم تخفق بعد رسوخا ومقاما عليا .. لعل انعكاس ارواحنا المعتمة في مرآة الزمن سيستحيل شعاعا منيرا في مرأى عيون لم تبصر بعد، ولعل ارتعاشة قلوبنا الآن ستكون زلزالا في زمن لم يأت بعد!
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
قد حُفِرَ عليه إسمنا وحياتنا ولحظاتنا ..لكننا نظل نكتب عم اشياء نتمناها ونعتقد أنها تشبهنا ...لو أننا نصمت ونكتب عن أشياء تشبه صمتنا ؟!
موضوع اكثر من رائعة وموضوع بحق يستحق التامل
دام المداد وسلم الحرف