بائعة الخبز - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

بائعة الخبز

ياسين بن يرماق

  نشر في 09 نونبر 2016 .

بائعة الخبز ( مستوحاة من أحداث واقعية )

ياله من مساء حزين.. اقترب الغروب وبدا ضوء الشمس خافتا.. ها هي تراقب الشمس تختفي شيئا فشيئا، وتتمنى لو أنها لاتغرب، وأن لايحين وقت عودتها. فهي لاتريد أن تفارق أحضانه، خصوصا أنها المرة الأخيرة التي تحس فيها دفئه وحنانه. لقد ترجته كثيرا ألا يتركها.. كم توسلت إليه أن يبقى معها.. رغم أنه جرحها باتخاذه قرار الإفتراق عنها، إلا أنها مستعدة لمسامحته ونسيان كل ذلك إن أعاد النظر وعدل عن رحيله.. لقد أحبته بكل جوارحها ومكنته من نفسها، لقد أعطته كل مالديها ولم تبخل عليه. لقد اعتادت أن تحلم باليوم الذي سيتزوجان فيه ويجتمعان تحت سقف واحد كما كان يعدها.. واليوم هاهي ترى الوعود والأحلام تحترق. ومع ذلك تتشبث باخر إحساس جميل تعلم أنها لن تعيشه ثانية. تعانقه بقوة وتبكي على صدره، و هو لايفعل شيئا سوى النظر إليها، فهو نفسه لم يكن يدري مقدار حبها له وتشبثها به. لكنه لايستطيع ترك الفرصة التي أتيحت له، لايستطيع ترك السيدة الأجنبية الغنية، والتي تكبره ب عشرين عاما أو أكثر، فهي فرصته للهروب من واقع جعله يدفن قلبه حيا.

حل الظلام.. والسكوت يخيم على الحديقة.. لايسمع فيها إلا صوت بكائها الخافت. رفعت رأسها للسماء.. لم تعد الشمس موجودة. أدركت أن وقت الوداع قد حان، وأن عليها تقبل مايحصل. نظرت إليه بنظرات متحسرة و دموعها تغرق وجهها، وقالت: وداعا. ثم مشت بخطوات متثاقلة.. عله يناديها.. عله يتبعها.. لم يفعل.. فاستدارت وفي عينيها نظرات استجداء.. لكنه كان قد رحل. نظرت في الأرجاء باحثة عنه، لكن لا أثر له. لقد رحل إلى الأبد.

وبينما كانت تمسح دموعها، تذكرت أمها التي أخبرتها ألا تتأخر عنها لتساعدها في جمع بسطة الخبز كالعادة، ويعودتا سوية إلى المنزل، والذي هو عبارة عن غرفة صغيرة تعيش فيها رفقة أمها وأبيها وأخيها.

وما إن اقتربت من الشارع الذي تفترش فيه أمها بسطة الخبز، حتى رأت منظرا أنساها ماعاشته قبل قليل من أسى، اتسعت عيناها وصرخت بأعلى صوتها، وهي ترى اثنين من رجال المخزن ينهالون بالضرب على أمها وأخيها بينما يحاولان حماية بسطة الخبز التي سقطت وتبعثر خبزها. ورأت أخاها ينهض ليعاركهما محاولا حماية أمه من ضربات عديمي الرحمة، فجراه وأخذاه معهما بعيدا إلى سيارة أمن، بينما أمها بقيت ملقاة على الأرض تبكي ضياع ابنها ورزقها. فجرت مسرعة نحوها وأنهضتها من على الأرض وانطلقتا بعيدا نحو البيت..

وبعد أن جلست أمها والتقطت أنفاسها قليلا، استدارت نحوها صارخة: ألم أخبرك ألا تتأخري؟؟ هل رأيت ماحصل بسببك؟؟ لقد كنا ننتظرك أنا وأخوك لنعود سويا، وهاقد ضاع أخوك وضاع الرزق.. قالت هذه الكلمات وعادت للبكاء..

لقد صعقت الفتاة مما سمعته من أمها. وكأن خيبة أملها لم تكفيها، فيكون تشبثهأ باخر حضن، سببا في احتجاز أخيها وضياع بسطة الخبز التي كانوا يقتاتون منها. كانت بسطة الخبز كل مايملكون. ماذا سيفعلون الان؟ كيف سيعيشون؟ كيف سيدفعون إيجار البيت و تكاليف الدواء لأبيها المريض؟ وهل كان ذنبها حقا أن جاء رجال المخزن واعتدوا على كل الباعة في الشارع وضيعوا رزقهم؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت تتكرر في ذهنها، لكن الشعور بالذنب والتقصير لم يكن يفارقها، فربما لو لم تتأخر في العودة، لجمعوا بسطة الخبز باكرا ولعادوا إلى البيت امنين.

وتذكرت سبب تأخرها.. لقد كان ذلك الحبيب الذي وثقت به وكانت مستعدة لتقف إلى جنبه وتصبر معه وتكون له سندا، ولاتريد مقابلا لذلك إلا أن تكون زوجته، أرادت فقط ان تعيش دون أن تضطر للوقوف ساعات أمام بسطة الخبز لتبيع بضع خبزات. والان، لا الزواج أتى، ولا الرزق بقى. و تعرف أنها لا أمل لها في التفكير في الزواج مجددا، لأنها تعلم أنه لارجل سيتزوج من فتاة فقدت عذريتها في علاقة خارج إطار شرعي.. وكانت تصحو من أفكارها بين الفينة والأخرى على صوت بكاء ونحيب أمها الاخذ في الإرتفاع، وتتجرع كلمات أمها اللائمة لها التي تطلقها من وقت لاخر، ثم تعلوا نظراتها زاوية الحجرة، فتلمح أباها المريض ممددا لا حول له ولاقوة.

يالها من ليلة كئيبة، ماكانت تظن أني ينتهي اليوم على هذا النحو حين استيقظت في الصباح، والان لاترى أمامها منفذا سوى الباب.. ولم تتردد، قامت وقد اقتربت الساعة من منتصف الليل، وتوجهت نحو الباب. فسألتها امها: إلى أين؟

فأجابتها أنها ستبيت عند جيرانهم. ولم تكن لديها أية نية في الذهاب إلى جيرانهم، بل كانت مجرد حجة للهروب. خرجت وتوجهت إلى الشارع الذي تقصده كل يوم لتبيع الخبز، فكان خاليا إلا من بضع رجال أمن يراقبون المكان. وفجأة، لمحت أحد الرجلين اللذين أخذا أخاها. انتابها خوف شديد اختلط بمشاعر الحقد و الحسرة، لكنها تمالكت نفسها قليلا وتوجهت إليه وسألته عن أخيها. فصرخ في وجهها باحتقار وطردها. إلا أنها ركعت عند قدميه وأخذت تستجديه باكية..ولم يكن قلبه ليرق أو يحن، فهو لايعرف الرحمة. ومع ذلك، فإن رؤية فتاة جميلة، في الثامنة عشر من عمرها، تركع أمامه وتترجاه، قد أثار غريزته التي جعلتها القسوة تنطبع بصبغة حيوانية، كيف لا وقد تجرد من إنسانيته. فنظر إليها لحظات قبل أن يقول: إن أردت أن يخرج أخوك، فعليك دفع ثمن خروجه.

فأجابته باكية: لكنني لا أملك أي نقود. أرجوك ياسيدي، نحن مجرد أناس فقراء لم نكن نملك إلا بسطة الخبز. و من دون أخي، سيصعب علينا العيش. أرجوك ياسيدي، إن أباه المريض وأمه ينتظران عودته.. ارجوك..

لكنه لم يعر أي اهتمام لما قالته، فأجاب: إن أخاك قد ضرب صديقي، ويجب أن يأخذ جزاءه. أما إن أردت إنقاذه فيجب عليك دفع الثمن.

فنظرت إليه، ورأت كيف ينظر إليها ويتفحص كل تفاصيل جسمها.. ففهمت الثمن الذي يقصده. وفكرت والديها المتحسرين وأخيها المحتجز ظلما.. وتذكرت أنها تتحمل جزءا من المسؤولية عما حصل، فقد خانت ثقة عائلتها بها وفرطت في كل شيء لتشبثها بحلم لم يتحقق.. وتذكرت أنها لم يعد لديها ماتخسره.. فقامت ونظرت إليه، وقالت: كما تريد ياسيدي، أطلق سراح أخي، وسأدفع الثمن الذي تريده. لكن أرجوك دعه يذهب للبيت الان. ارجوك ياسيدي..

وحينها ابتسم بخبث، ورفع جهازه اللاسلكي، امرا أن يخرج أخوها، وقد كان قريبا، مازال في السيارة التي أركباه إياها. رأت أخاها وهو يخرج ويتوجه نحو البيت مهرولا، فاختبأت وراء رجل الأمن خشية أن يراها، وراقبته وهو يذهب، فأحست ببعض الفرح يحاول أن يجتاح فؤادها، إلا أنه اختفى سريعا ما إن تذكرت ما ينتظرها من شقاء هذه الليلة...

في الصباح الباكر، أشرقت شمس جديدة.. هاهي تخرج من السيارة التي عاشت فيها أسوء كابوس في حياتها القصيرة، لم تكن تشعر بأي شيء، ولم تكن تريد أن تفكر في أي شيء. أخرجت من جيبها مئة درهم أعطاها إياها الرجل بعد أن انتهى من التهام جسدها، وذهبت مسرعة نحو مقهى لتناول الفطور. وعلى غير عادتها، اشترت علبة سجائر وقداحة، ولم تنهض إلا بعد أن فرغت العلبة. وخرجت من المقهى وهي لاتدري ماذا ستفعل وإلى أين ستذهب.. فكرت لوهلة في الذهاب إلى البيت، لكنها لم تعلم كيف ستنظر في وجه أمها، وكيف ستقابل أخاها وأباها وكأنه لم يحصل شيء. هي لم تعد نفسها بعد اليوم. كلا، لن تعود. ومشت في خطوات متراقصة بطيئة، لاتدري إلى أين السبيل. ياله من صباح حزين...

تأليف: ياسين بن يرماق



   نشر في 09 نونبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا