نهضت ليلى بصعوبة من الفراش، فالجو بارد والظلام دامس والحمار قد مات. نظرت لأخيها الصغير في إشفاق، فهو في السنة الأولى ابتدائي ولم يتعود بعد على رحلة الألف ميل إلى المدرسة لا سيما وقد حل الشتاء ومعه البرد والظلام ودموع السماء.. يا للعناء.
نظرت للجسم النحيل وقد تقوقع في شكل جنيني تحت الغطاء، فضاق صدرها ولم تتمالك نفسها عن البكاء.. تذكرت سنواتها الأولى في الدراسة عندما كان والدها يصحبها وهي على ظهر الحمار ثم يعود بها في المساء، فتتلقاها أمها باسمة ويتناولون معا وجبة العشاء. لم تكن وجبة حقيقية، لكن ليلى كانت تعشق تلك الأجواء العائلية.. أين هي منها الآن وقد ذهب نبع الحنان.. ماتت أمها، كانت المرة الأولى التي تغضب فيها من ربها .. تجاوز الموت سنها فلم تفهم لِم؟
نعم غضبت من الله لكنها اليوم تبكي وتستنجد بالله .. لم يكن الوقت مناسبا للبكاء، يجب أن تكون قوية، يجب أن تتقن الدور الذي فرضته عليها الحياة وهي ما تزال صبية. صارت أما لأخيها علاء، بل حتى أبوها عاد طفلا صغيرا منذ اليوم الأول الذي حاول فيه تحضير الغداء.. لازالت تتذكر أول وجبة أعدها والدها بعد وفاة أمها .. بل أمهم جميعا. وضع الطعام على الأرض ودعاهم إلى الأكل وقد علت شفتيه ابتسامة مقهورة .. مد يده إلى الطبق وهو يغالب عبراته، نظرت إليه ليلى وعيناها السوداوان تتلألآن بالدموع، لم تقو على الحراك فاندفع نحوها باكيا وضمها إلى صدره حتى كاد يخنقها، كانت المرة الأولى التي يبكي فيها زوجته، تمالك نفسه أمام الناس، لم يضعف أمام الرجال، أما الآن وقد وجد نفسه وحيدا مع الأطفال أدرك حجم مصيبته فغاب في محنته ولم يستيقظ إلا على صوت ابنته وهي تتوسل إليه : "كفّ أبي أرجوك" وصوت ابنه وهو يئن ..
- ليلى مالك تبكين؟
- لا لا شيء.. كنت أعطس ليس إلا
- بل كنت تبكين .. تريدين أمي أليس كذلك؟
- حسن كفاك لغوا وانهض إلى المدرسة، تنتظرنا ساعات من المشي الطويل
- آآه لا أريد
- هيا انهض وسر في سبيل الحياة فمن نام لم ..
- تنتظره الحياة
قالها بامتعاض، لقد حفظ الدرس.. تعود سماعه كل يوم. وفي بعض الأحيان كانت أخته تهدده بالذئب.. تقول بأنه يشتم رائحة الأطفال الكسالى على بعد كيلومترات فيأتي ويأكلهم ليخلص الناس منهم.. ولطالما شعر بالخوف كلما مرا بتلك الغابة المظلمة حتى في ساعات النهار الأولى إلا أن وجود ليلى معه يشعره بالأمان. لم تكن طفلة في عينيه، بل هي امرأة صغيرة في العاشرة من عمرها والذئب يحترم الكبار بل يخاف منهم، إذا فأنا معها في أمان. هكذا كان يفكر ثمّ تذكر: اليوم سبت، نحن تلاميذ السنة الأولى لا ندرس يوم السبت، ستذهبين وحدك يا ليلى !
تبسمت أخته في حنو. كانت فرحتها بعطلته المؤقتة أشد من فرحته هو بها. تنهدت في ارتياح ثم كشفت الغطاء عن الوجه الملائكي، نظرت مليا في عينيه، كم تعشقهما .. عينا أمها .. طبعت على جبينه قبلة طويلة ثم شرعت في تغيير ملابسها وخرجت دون أن توقظ أباها.. كان يغط في نوم عميق، يجهد نفسه كثيرا بالعمل خلال النهار ولا يقبل إعانة من أحد..مسكين أبي، سأذهب وحدي، ليست المرة الأولى بأية حال.. ثم خطر لها خاطر تسارعت له دقات قلبها .. تذكرت ما سمعته عن الذئب الذي يحوم في ذاك الغاب..
لا يهمني "ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر" خرجت وهي تردد بعض الأبيات لشاعرها المفضل.. سرت في جسمها رعدة، كان الشتاء يجود بأقصى ما لديه من صقيع لكن إرادتها أقوى. "العلم نور" هكذا كتب في جدار المدرسة وهي طموحة وعلى الوصول مصممة. سرعان ما دب الدفء في جسمها من كثرة مشيها، مضى على خروجها ساعة وقد اقتربت من منطقة الخطر. لم تره يوما.. لكنها تشعر به.. اليوم أكثر من أي يوم مضى .. تحس بثقل نظرته الحديدية على جسمها .. يا الله ..
خرجت ليلى ولم تعد، لم يجد الفلاحون سوى بقايا ثيابها وآثار الدماء. ومن بعيد تابعتهم أعين الذئب العتيد ولسان حاله يقول: "أعلم أنكم ستلعنونني وتصمونني بأقذع النعوت لكني في النهاية ذئب أقتات كي أعيش ولا آكل حتى أجوع، أما أنت أيها الحيوان الأكبر فتأكل حتى التخمة وتقتل فقط للمتعة ويصطاد القوي منك الضعيف. أتبحثون عن مجرم؟ إنه ذاك الطاغية، كان عليه أن يبني مدرسة قريبة حتى لا تأكل الذئاب الأطفال، حتى يكون هذا ضربا من المحال!"
-
إيمانمدونة تحب القراءة والكتابة