مع نسماتِ الصباحِ البِكرِ التي لم تُلوّثها عوادم السيارات وأنفاس البشر بعد، أراها أمام منزلها القريب مِن ميدان الجيزة في طريقي إلى العمل في السادسة والنصف مِن صباح كل يومٍ .. نحيلةٌ ترتدي جلبابًا منزليًا بسيطًا، وتعلو أنفها نظارةٌ طبيةٌ سميكةٌ تظهر من ورائها عينيها كنقطتين صغيرتين، وتَربطُ على رأسها "إيشارب" يُظهِرُ مِن تحته جزءًا مِن شعرها الأبيض .. تستطيعَ أن تُميّزَ آثار عزٍّ غابرٍ في تفاصيل وجهها .. تَظهرُ آثار السنين في عروقها البارزة في رقبتها ويديها وفي التجاعيد التي تملأ وجهها وتَعكِسُ سنوات عمرها التي تخطّت الثمانين .. تَعملُ دون كللٍ - وهي تُمسِكُ بمقشّتها - في تنظيف الرصيف أمام منزلها، لتمحو آثار المخلّفات التي يتركها الباعة الذين يحتلّون رصيف منزلها معظم ساعات اليوم .. لا تضعُ أدنى اعتبارٍ لنظرات المارّة المتسائلة عن سرِّ تلك المرأة التي تَكنِسُ رصيف بيتها دون خجلٍ .. لا تهتمُ إن كان الجوُّ باردًا أم حارًا .. لا تجدُ غضاضةً في الانحناء لالتقاط بعض أوراق الشجرة الوارفة التي تُظلّلُ حديقة منزلها الصغيرة وتُلقي ببعض أوراقها خارج حدود السور الحديديّ الذي يَفصِلُ المنزل عن الشارع، والذي تستطيعَ تمييز ملامح ذلك المنزل العتيق بكل وضوحٍ من بين قضبانه الحديدية .. هو أقرب إلى فيلا صغيرةٍ مِن ثلاثة طوابقَ أمامها دَرَجٌ صغيرٌ مِن الرخام الأبيض يقودُ إلى بابٍ خشبيٍّ عالٍ به شُرَّاعةٍ زجاجيةٍ تحميها بعض القضبان الحديدية الرفيعة .. يشذُّ في منظره المتفرد بقِدَمه وطرازه المعماريّ المتميّز وتفاصيله الزخرفية الدقيقة وسط غابةٍ مِن العمارات الخرسانية القبيحة عالية الارتفاع مِن حوله، وكأنها وحوشٌ مفترسةٌ تستعدُّ للانقضاض على ذلك المنزل الوديع في أية لحظةٍ .. تشعر – بقليلٍ من التدقيق – بأنَّ هناك تشابهًا يصلُ إلى حد التطابق بين تلك السيدة العجوز وبين منزلها العتيق.
أربعةُ أعوامٍ وأنا أرى هذا المشهد اليوميّ المتكرر بنفس التفاصيل في نفس المكان في نفس التوقيت لنفس السيدة التي تقوم بنفس العمل بمنتهى المثابرة والصبر والإصرار، رغم سنها الكبير، ورغم وهنها الواضح، ورغم يقينها بأن الباعة سيأتون في غضون ساعةٍ على الأكثر ليمحوا - ببضاعتهم التي سيفرشونها على رصيف منزلها - كل أثرٍ للعمل الشاق الذي قامتْ به!.
أربعةُ أعوامٍ وأنا أتعلّمُ كل يومٍ مِن هذه السيدة العظيمة دروسًا صامتةً في أمور الحياة .. تعلّمتُ منها أن أقوم بالعمل الذي أحبه دون أن أنظر إلى كلام الناس ودون أن ألقي بالاً لنظراتهم وتعليقاتهم التي ستحاول التقليل ممّا أعمله والتحقير مِن شأنه .. تعلّمتُ منها أن أقومَ بالعمل الذي أحبه مهما كانت العوائق والصعاب التي ستواجهني .. تعلّمتُ منها أن أقولَ ما يُرضِي ربي ونفسي وضميري حتى لو كنتُ وحيدًا مختلفًا عن كل الناس مِن حولي .. تعلّمتُ منها ألاَّ أخجلَ مِن أي عملٍ أقومُ به ما دمتُ على قناعةٍ به حتى لو سخر الجميع مني .. تعلّمتُ منها أن أزرعَ زرعةً حتى لو عَلِمتُ أنَّ هناك أقدامًا ستدوسها بعد اكتمال نضجها .. تعلّمتُ منها ألاَّ أيأسَ وأن أزرعَ الأمل مع كل طلعة شمسٍ حتى لو كان كل البشر ضدي .. تعلّمتُ منها أن أسلكَ طريق الحق حتى لو سلك الجميع طريق الباطل .. تعلّمتُ منها أن أقاومَ الظلم وأن أحاولَ أن أنيرَ شمعةً وسط الظلام حتى لو كنتُ متيقّنًا أن هناك مليون شخصٍ سيطفئونها .. تعلّمتُ منها أن أحتفظَ بمبادئي ثابتةً راسخةً لا يلوّثها نفاق المنافقين وكذب الكاذبين وسخرية الساخرين وجهل الجاهلين وعُلُو الظالمين.
أربعةُ أعوامٍ وأنا أتمنى لو أمتلكُ الجرأة وأتوقفُ أمام هذه السيدة العظيمة وأنحني لأقَبِّل يدها وأقول لها: شكرًا يا سيدتي .. لقد علَّمْتِني ما لم تُعَلِّمه لي المدرسة، وما لم أقرأه في كتابٍ، وما لم ينصحني به صديقٌ.
التعليقات
تحية بحجم إبداعك