توناروز
ذات الأمل، وبعض التفاصيل الصغيرة
نشر في 12 فبراير 2020 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
لم تحقق أحلامها بعد! كانت التفاصيل البيضاء تغمر وجودها وهي طفلة، تركض خلف صديقاتها المتعبات، ترتدي الوردي والأصفر، فراشة مزركشة تجوب بساط أخضر برشاقة، فتنثر الحب والبراءة.
حياتها البسيطة متاهة ألوان جميلة. تبدو بجسدها المنحوت بدقة بين تفاصيل الحياة لوحة في إطار مدهش، فضي، براق، كأنه إكليل ورد الألهة. شساعة المكان يمدها بعنفوان شهي، ترقص، يطيعها الريح، يأتي إليها بخفة، ينسجم مع استداراتها الدقيقة، ودورانها المتزن؛ كأنها درويش يؤدي رقصته الأخيرة على إيقاع نشيد الله وأنين الناي، قبل أن يصعد ما يهزه من الأعماق إلى العالم العلوي، وتسبح روحه في الملكوت. كان الحب عندها أولى من كل شيء، يسحرها الغموض الذي يحمله، حتى صارت تعتقد أن كل الأشياء لها قلب يحب. معنى العالم لديها حبا، وإن حدث وسقط جذار ما من جذرانه، ترجح فقدان الحب دوما؛ على قلب العالم أن يحب دائما، كي تستقر العناصر، وتتم الحياة دورتها بشكل عادي، ثم تعيد ذلك بتوازن دائم... كي لا يكون مقابل هذا الحب الذي تمجده في كل وقت سقوطا، أو يكون الموت الذي يأتي بعده.
كانت لا تخرج إلا في الأيام المشمسة لتظهر ألوانها بوضوح، ولتلعب مع رفيق جميل تحبه: ظلها الذي يتبعها وهي تخترق الأخضر الذي يكسو حديقة دارها. في الربيع، تضع كل متاعب الحياة ورتابة الأيام جانبا، وتغرق في الأخضر بدهشة طفلة لم تعرف السواد بعد.
لا تحب المطر كثيرا، عدا رنين قطراته وهي تسقط، ونهايته الجميلة التي تأسرها بتفاصيلها المزركشة بألوان الطيف، تردد أغاني المطر التي تحفظها عن جدتها، وتغوص عميقا في جمال عروس المطر.
كأنما خطها الاله على رخام الحياة بمداد من ذهب! يسحرها السكون الذي يتبعه نشيج الناي، تغرق في نوتات البيانو كاملة. كانت الصورة تكبر وتزداد وضوحا مع مرور الأيام، يباغتها الحلم الأكبر في لحظات الرتابة والأسى، فتبسم، تعود الحياة إلى محياها، تنظر بقلب حالم إلى أصابعها المخضبة بالحناء: يوما ما، ستغدو عازفة، وستعتاد أصابعها الجميلة على مداعبة أوثار البيانو خاصتها. كل صباح، ستأتي العصافير إلى بهو الدار، وستشهد على جمال يأتي من أصابعها، ستغرق هي الأخرى في التفاصيل، وستسكر بخمرة النشيج الهادئ، ثم تطلق أجنحتها الصغيرة للريح.
مرآتها سماء زرقاء صافية، ترى من خلالها وجهها الغارق دوما في العنفوان، وحين جمعت شتات ميولاتها التي تشبه أغنية، أول ما جسدته بفرشاتها على البياض؛ وجهها الجميل الذي رأته في السماء ذات مساء يحاذي القمر.
لم تتفاجئ كثيرا حين أدركت أن قدرها الذي حاكه الاله بحكمة علوية كان لوحة وفرشاة. كانت تدرك أن سعادتها حين تتأمل سكون الكون المزين بأنجم صغيرة تفوق كل شيء، وأن الألم الذي ينتابها بفعل غياب القمر مجرد صرخة الطفلة التي بداخلها وهي تحتاج نورا لترى ألوانها؛ بداخلها كون آخر يحتاج للأسود والأبيض والأزرق ليتضح أكثر، به قمر وشمس ونجوم كثيرة!
وحدها تعرف سر عزلتها التي تقضيها وحيدة في الجبل، تقرأ النصوص التي كتبت على الصخر، وتملأ بياضها بألوان مدهشة تستمدها من النار والأعشاب والماء والحجر، وتملأ الهواء بأنفاسها الدافئة وهي تغني.. لا أحد يفهم كنهها، لا تملك أصدقاء كثيرون، عدا أمها القروية التي تعرف كيف تفك شفرة غموض استثنائي يجتاحها وهي تتأمل، وتفهم ما يتوارى وراء شخوص مبهمة الملامح وهي تجسدها في بياض لوحاتها، وتقرأ تلك الجمل التي تحتويها نصوص عميقة تدونها في مذكرتها بين دمعة وابتسامة. أمها قديسة تعرف التفاصيل منذ البدايات، ولأن حدسها كان يقينا، اختارت أن تكون أملها المنشود، قالت بعد أن طبعت على محياها الصغير أول قبلة:
_ياه، بعد مخاض عسير، جاء أملي، صغيرتي الشبيهة بأمها أمامي؛ توناروز!
توناروز!..
تونارو...
ت...
-
عبدالله ادحموشدمعة وابتسامة