يخيل إلى الكثيرين أن عبارتي توأم الروح و مرآة الذات تعني دائما العشيقة و الحبيبة و الخليلة ، فالإطلاع السطحي على المعنى يوحي لصاحبه بذلك ، إلا أن جوهر العبارتين غير ذلك إطلاقا، إنها تعني نصفك الأخر و جزئك الثاني المكنون داخلك ، الذي يعطيك دون أن ينتظر منك شكر أو ثناء. ذاك المكمل لروحك و المهذب لنفسك ، الذي يجعلك تبحث في سويداء قلبك و أعماق وجدانك عن المعنى الحقيقي و السرمدي للحب، الذي به ستحيى حياة السعادة و الجمال ، و بدونه محال أن تصل إلى الحقيقة ومعنى الجلال.
و لسبب يجهله عقلك الصغير و يدركه قلبك السقيم ، لتزال تجهد نفسك في البحث الممل عن ذاك الرفيق، وترهق بدنك في السير الحثيث إلى ذاك الأنيس، غير آبه بوعورة المسلك و بحتمية المهلك.
لعمري إنها رحلة لا يملها إلا جاهل أو جاحد ، و لا يدرك مشاهد جمالها و لطائف أسرارها إلا من كان داخله رطب ما فيه عطب ، فهي رحلة تخرجك من كهف ذاتك المظلم لتنقلك إلى فضاء روحك المشرق، الذي ما فتئ يستمد زينته ونوره من مشكاة الخالق البديع العليم العظيم ، و ما فتئ يبحر في مقامات النور المبين على سفينة الأنبياء و الصالحين ، حيث الجميع موسومين بحلية الغر المحجلين راكعين ساجدين، يمشون على خطى مواكب العابدين الزاهدين ، في طواف لا نهاية و لا وداع له ، سائرين على إقاعات تحايا السلام، كأنهم مطلع الكوكبي الذري في منازل ناشئة الليل ، مبتغاهم الجلوس بين يدي الرب الرحيم في درجة الحمد و الثناء.
لعل الوصف تشابه عليكم يا أصحاب فضعتم في متاهات التفكير و التخمين، و لعلكم تسألون من يكون هذا النصف المكمل و هذا الرفيق المتمم.. و لعلكم بدأتم تقلبون صفحات مخيلتكم بحثا عن مكانه، فرحتم تقولون فلان أو علان ..
لا يا أصحاب.. إن رفيق دربكم هذا ليس بصديقكم و لا زميلكم ولا أخ لكم و لا حتى أستاذكم،.. فهو أعظمهم شأنا من ذلك.
إنه صوت داخلي ، عبارة عن كلام ذي معاني دقيقة، و إشارات عميقة، و طرقه رقيقة ، يناديك ألا تلتفت للشهوات الزليقة. هو همس تنفلق منه الأسرار والأنوار ، و فيه ترتقي الحقائق، لتتنزل العلوم و الفهوم فتعجز الخلائق. إن نفح جماله و زهر بهاء درره لمونقة، و من نور الخالق متدفقة، وزمام الأمر به منوط ، فإذا أدركت جوهر كنهه فلن تحتاج لا إلى واسطة و لا إلى موسوط.
إنه أقرب منكم إليكم ، إذ هو سركم الدال عليكم ، ومذكركم القائم بين يديكم.
حتما قد اكتشفتموه الآن ، إنه يسكن فيكم منذ وعيتم أنفسكم ، فتارة يوبخكم وتارة يعظكم و تارة أخرى يجعلكم تحسون بالفراغ و الضيق ..
إنه الضمير، المبصر لآيات الطريق التي ستسلكونها في مسيرة الكشف و التجلي بين الخلوات و الجلوات ، غير مكترثين للجروح و المكابدات، واضعين نصب أعينيكم درجة اليقين ، وممسكين بالحبل المتين، ومتخلقين بخلق سيد المرسلين.
فيا معشر الحيارى التائهين بين حدائق الروْحِ و الرياحين ، ايها الموقدون لفتيل التراتيل و المدلجين بمحارب السرى و الرياض و البساتين ، يا من أحرق لهيب الشوق و تباريح الجوى أفئدتهم العامرة بالفيوضات الربانية والسبحات الإلهية . امسكوا بأطراف خيوط النور الهادية إلى أقوم المسالك الموصلة لذي العزة و الملكوت، لتنهلوا من كرامات الأسرار الرحمانية، و تدركوا حكم البكاء بين يدي الذات العلية . ابقوا على صلة بأناكم الأخر أو قل الأعلى ، حتى يستعيد جناحكم المصاب عافيته ، و يفلت من أسر قيود الشرود عن وصال الحبيب المحبوب .
-
حمزة الوهابيمهتم بالفلسفة والفكر والادب