التفاهة والهيافة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

التفاهة والهيافة

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 14 ديسمبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التفاهة والهيافة..

هيام فؤاد ضمرة..


ينتابك في بعض الأحيان شعور الغرابة والاستغراب، إذ كيف أن الناس تتجمهر منتصرة لفئة التافهين، وكيف أنّ التافهين استطاعوا حسم معركة الشهرة ليحصدوا الاهتمام الأكبر على مجمل تفاهتهم، وكيف ارتقى التافهين إلى المناصب الرفيعة ليمسكوا زمام عمل لا قدرة لهم على إدارته حتى وإن حشوتهم بكل المبهرات السطحية، وكيف ساد بقدرة قادر التافهون رغم وضوح هزلية وسطحية مواقفهم؟.. وكيف بات التافهون في المقدمات وكيف لا يستتفههم العاقلون ولا يواجهونهم بالتصدي لرد تفاهتم عليهم؟.

والسؤال يطرح نفسه.. هل نحن حقا نعيش في زمن التفاهة؟

تُقابلنا حالات ممن يستعرضون تفاهتهم بوضوح عجيب، كأن يدعون ازدحامهم بالعمل من قبيل الاستعراض وبيان الأهمية، وهم محشورون وراء مكاتب يغطيها الغبار يقرضون أظافر أناملهم مللاً، أو يرددون لأنفسهم عبارات تدعم صبرهم على ملل الخيبة، ويدعون أن فن العمل لتحقيق الهدف يحتاج إلى برستيج خاص لضمان البقاء ونيل الشهرة وكسب الجمهور، وأيضاً يحتاجون إلى مسرحية متقنة لاقناع الناس أنهم مهمون، وأنهم يمتلكون صفات التميز، وأنهم في موقعهم قديرون، ويحتاجون إلى أدوات تزيف حقيقتهم ليبهروا الآخرين من خلال جملة أكاذيب وإيحاءات وإدعاءات ملفقة لا وجود لها، وهم في حقيقة الأمر فارغون تافهون لا يملكون مما يدعون، وإنما يحتالون على غيرهم ليجيِّروا أعمال غيرهم لأنفسهم، أي يشتغلون بعقول وخبرات وانجازات غيرهم ويسجلون نجاحاتهم على ظهور الآخرين.

زمن التفاهة والتافهين، ونظام تفاهة يخرق العقول بلعنة الذهول، إذ يقول أن كل شيء في هذه الدنيا مجرد لعبة عليك اتقان لعبها بحذافيرها على مدى متكرر دون هوادة، وإثبات قدرتك على أن تتلبس الحالة غير المقنعة لتبدو بظاهرها مقنعة، وليس مهماً أبداً امتلاكك حالة الجودة، أن تبدو تافها وأنت تلعب بمصيرهم وبأذهانهم، أن تضع لنفسك بصمة ولو عن طريق التفاهة.

يمارسون سحر الخديعة من خلال ممارسة خداع البصر، وخداع العقل، وخداع القيم، وحقائق ما عادت ثابته ولا حقيقية، لدرجة أن تعملق الأقزام وتحولهم إلى عمالقة، وصار مظهرهم المخادع يوهمك فعلاً بأنهم عمالقة العصر العجيب الذي يبدو كل شيء فيه منقلباً ضد حقيقته، مستتراً بالأحاييل.

ها هو العالم يسيطر عليه جملة من التافهين يتحكمون بالعالم وكأنهم أولياء أمره، والقيمين عليه يبدلون وينقلون ويثبتون ويستعبدون وما من أحد يقف في مواجهتهم ويمارس دور انتماءه.

اخترعوا المصطلحات للعبث بالموجودات، وقلبوا حقيقة الموجودات ليمنحوها معاني ومصطلحات جديدة، أرادوا أن يغيروا العالم ويعولموه ليثبتوا لأنفسهم أنهم مهمون وأنهم قديرون، وأنهم مغيرون، جاءوا بالعولمة وشعبوها بمسميات جديدة ليستبدلوا الإرادة الشعبية بالمقبولات المجتمعية المتماشية مع المصطلحات التي منحوها معاني على ما يريدونه لها، وليحولوا المواطن إلى شريك في الحكم وهو بالحقيقة ليس كذلك لكنها الحيلة حين تمثلها الأوهام، حتى أنه غير مقبول من هذا المواطن أن يبدو معترضا أو متدخلا بالقرار، لأنه في الحقيقة التي يراها أهل السلطة لا يرتقي إلى مستوى الشراكة لقصور وعيه الذي أبدا لا ينضج بمفهوم الحكومات إلا بنضوج رضاها عنه، لتصبح هذه الحكومات شريك يقاسمك أرباحك ومنجزاتك الايجابية فقط، فيما السلبية فيقع عاتقها عليك وحدك لتحولك إلى متهم عليه أن يلقى العقاب.

في زمن التفاهة ونظامها هو أن تنسف قيم الإنسانية بمفهومها النمطي من أساسياتها، كما ينسف معني البشرية ومصالح وجودها، وكوكب الأرض الذي تتشارك عليها البشرية وسلامته، والسلام على مفهومة في استتباب الأمن وسيادة الرخاء، والعدالة على حقيقتها المدركة، والحقوق عما هو متعارف عليه في مصالح الانسانية، لتصبح اللغة السائدة هي لغة القوة والسيادة المطلقة والهيمنة بما يخدم المصالح الذاتية، ويعزز التفرد في الهيمنة.

التفاهة بإلقاء العقل والمنطق خارج الوعي، وتزييف الحس النقدي، ومنع النفع في إسداء النصح، ثم يدفعونك لأن تترك ثقافتك الخاصة وراء ظهرك وتلتزم فقط بالقواعد والأسس المتفاعلة الجديدة التي ستغير وجه العالم ووجه الإنسان وتعيده إلى قانون الغاب من جديد.

سيتفشى الفساد والإفساد ليجتمعا على مباديء الجريمة بأشكالها، بمعنى بناء مجتمع الفساد الذي ينتهك كل شيء وكل خير في الدنيا.. فالتفاهة نظام رداءة بكل المقاييس، تقلب الأبيض أسود والأسود أبيض، بحيث لا تعود ترى حقيقة موقعك إلا من خلال مرآة تخدعك بمقاييسها، فتريك وجها مشوها لا يرتبط بالحقيقة.

تكاثرت فقاعات الرغوة وتعظم حجم الزَبد المنتفخ ليصير بنا جُفاء، لتصبح التفاهة عامة وتجف الأدمغة في الرؤوس حتى لا تعود صالحة للعمل، مجرد أدمغة مستقيلة عديمة النفع، تستهلك ذاتها في رجيع ماضيها وسخيف حاضرها، لتبني هيكلا من ورق سرعان ما تذروه الرياح ويصبح أثراً بعد عين، فإذا السخافة عبارة عن برج هيافة قابل للغياب. فالتفاهة طالت كل شيء في هذه الحياة بدءا من الإنسان إلى كل المتعلقات الإنسانية الحياتية من متطلبات معيشته وحاجاته الأساسية.

ها هي العولمة تدفع الاقتصاد العالمي للإنهيار، وتدفع الإنسان للتوقف خاوياً فارغا من كل شيء، ليتحول ملايين البشر من الفئة الشبابية إلى عاطلين عن العمل في مجتمعات القهر والفقر، فيما التافهون يرفلون بأثواب الحرير ويمسكون بزمام الحكم يعيثون فساداً وإفسادا، فيزيد الطامة الكبرى ويحولها إلى جبال شواهق من الخراب والخرائب، فتنقلب موازين الناس ويتحول الطبيب إلى نصاب، والمهندس إلى راقص أو مغني، والمعلم إلى تاجر خردة، والمحامي إلى خطيب جامع، وهكذا دواليك، فالتفاهة تقلب الموازين وتحرك الراكد إلى متحرك والمتحرك إلى راكد، فيصبح الجد في موقع اللهو واللهو في موقع الجد، والعبث حضارة وشطارة والالتزام غباء منقرض وحدارة،

فما الذي يحدث في هذا العالم التافه؟.. من ذلك الذي وضع نظام التفاهة وأسسها وبدأ بتنفيذ لعبة التتفيه العميق؟.. ومن عمم ثقافتها بالحيلة والفتيلة حتى وصل الحال إلى أسوأ حال حتى عقوق الأحوال؟.. ومن جر عربة الحياة إلى فجيعة هذا المآل؟.

كيف تواطأ العالم وترك هراوة الخراب تحطم رأس القيم تثخنها إنقلاباً وتعاديها احتراباً، وتدفنها في الحفرة الأعمق.. لينهار كل شيء بلا رحمة، الاقتصاد والمال والصحة والغذاء والتجارة والإمارة، والأجيال والأحمال وتعظم في الحيرة السؤال.

عالم حائر يواجه موجة تسونامية من التفاهة والتفاهات والتافهين.. طوفان عظيم يحتاج إلى سفينة جديدة تنقذ البعض الصالح وتغرق الدنيا ومن عليها من التافهين الملحدين العائثين فسادا وإفساداً، المسودة وجوههم بما اقترفت أيديهم انتقاما من كل البشرية.. فهل من أمل يرجو في إعادة الحياة لنبض الحياة الطبيعية؟.. هل من أمل يعيد كوكب الكرة الأرضية إلى عماره الطبيعي، ويوقف الدمار الكامل قبل النهاية؟؟

اختتام الموضوع بالسؤال قدر كافٍ لإدراك حجم المهمة المستحيلة في زمن عصي بات يقوده العصاة القساة.


  • 3

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 14 ديسمبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا