كانت مشكلته الأولى التي وجب التعامل معها مباشرة و بسرعة في بلاد ألمانيا ، هي البرد القارص ، و الذي يفعل في الأجساد فعال السياط على ظهر عار في وقت شديد القيظ ، و كم كان منظره مضحكا حينما خرج في أول ليلة له من السيارة بعد خروجه من المطار في مدينة هانوفر الألمانية ، فبمجرد ما أخرج رجليه و نصف جسده ، انتابه ما يشبه الصدمة ، و ظل لمدة تقارب الثلاثين ثانية ، كمومياء محنطة ، فليس من السهل على شخص آت من بلاد أقصى درجات الشتاء فيها 10 درجات ، أن يقاوم درجات حرارة ، وصلت في تلك الليلة إلى 25 درجة تحت الصفر ، و كأنما ترحب به ترحيب المشتاق إلى أمثاله ، فأسرع الخطى مسرعا بعد ذلك في حركات بهلوانية متألما من شدة البرد إلى الشقة التي يقطنها أحد أفراد عائلته حيث استعاد عافيته ، و كان البرد شديدا ذلك العام ، و كانت معاناته تكبر بتقلص درجات الحرارة هناك ، بالرغم من أنه كان يعشق فصل الشتاء ، غير أن التحول الشديد ، من مكان إلى مكان ، كاد يودي بحماسه الزائد نوعا ما ، و الذي رافقه إلى ألمانيا !
بهره في أول تجوال له في المدينة ، نظافتها التي لم يشهد لها مثالا إلا في التلفاز ، و الأضواء البراقة التي تزينها ، و تزين مداخلها ، كعروس زفت في يوم بهيج إلى عروسها ، هذا هو بهرج الدنيا ، و هذا زخرفها ، لم يحس في أيامه الأولى بذلك الإحساس الذي يسمونه الغربة ، غرق في أول أيامه في جمال تلك المدينة الأخاذ ، و كم بهره منظر بحيرة عملاقة تجمدت بفعل تدني الحرارة ، حتى أصبح بإمكان الناس المشي فوقها ، و هم ينظرون إلى تحرك الأسماك تحت أرجلهم ، و الغابات الكبيرة المحيطة ، و التي تأخذ العقول ، حتى بعد خلوها من الأوراق ، و ساوره شعور بالغيرة ، كيف لهذه البلاد التي لا يسجد أهلها لله رب العالمين ، و يكفرون به و يدعون له الولد و الشريك ، أن تكون لهم كل هذه النعم ، و كل هذه الأشياء التي لم يرها يوما في بلاده !
و في خلال تجوله نهارا في تلك المدينة اكتشف أول مرة مجاهرة الناس بشرب الخمر ، من قنينات يرفعونها إلى أفواههم جهارا نهارا ، فأحس بصدمة حقيقية ، عرف فيما بعد أنها نتيجة صراع حضارات ، فالحضارة الألمانية ، حتى ، و إن كانت في أقصى تقدمها الصناعي التكنولوجي ، و الإقتصادي ، لا زال يقطن بين ثناياها مشاهد مائعة ، لا تمت إلى التقدم بصلة ، كذلك المنظر الذي شاهده ، و مناظر رآها في الميترو ، حيث يمارسون حياتهم الطبيعية البهيمية ، القريبة إلى الحيوانية ، هكذا أمام الجميع ، فأحس بالخجل ، و شيئ من الإحتقان الداخلي ، و أيقن ، أن أعتى المسلمين ، الذين يأتون إلى بلاد الكفر ، و هو يعتقد أن إيمانه سوف يحميه ، و يحول بينه و بين الفتن ، يمكن بسهولة أن يسقط في الفتن المتربصة به هناك ، فبلاد الكفار هي تماما كفتنة الدجال ، و إن كانت لا توازيها في الفتك ، إلا أنها تشبهها في التصوير ، فحين خروج الدجال ، أمرنا الرسول بالإبتعاد عنه ، من شدة الفتن التي يأتي بها ، و بلاد الكفر تصغير للفتنة العوراء ، و يمكنه الآن أن يشهد على ذلك و يؤكده !
إلا أن التعاليم الإسلامية و الأخلاق المحمدية كانت في بعض الأحيان تتجلى في سماء الأالمان ، و أعين عجائزها ، و حتى شبابها ، فمظاهر الإيثار في الميترو ، و احترام المواعيد ، و نظافة الشوارع ، و احترام الناس لبعضهم البعض في الشوارع أثناء السياقة ، كانت أشياء حسبها انقرضت في هذا الزمان ، و أن ما هي إلا قصص مروية ، كان يرددها على مسامعه مدرسوا حصة التربية الإسلامية في بلاده ، ليجدها في بلاد بعيدة جدا ، اسمها جرمانيا !
كان النظام السائد ف ألمانيا ، هو انتخاب الشعب للشعب ، أو ما يصطلح عليه بحكم الشعب نفسه بنفسه ، و محاسبة الشعب لمسؤوليه ، و فضحهم إذا أمكن ، و إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء ، على صفحات الجرائد و المجلات ، و إذا لم يوفوا بعهودهم الإنتخابية االتي ما فتؤوا يصدعون رؤوس الشعب بها ! نظام جميل ، غير أن له من السلبيات ما له ، و أفضل منه نظام الشورى الإسلامي ، غير أنه و إحقاقا للحق ، فذلك النظام في ألمانيا ، أو في بلاد الكفر الأخرى يعطي نتائج حسنة من ناحية الإلتزام ، و محاسبة المخطئين ، و الأهم من ذلك كله ، قطع الطريق على الرشوة و الفساد الإداري ، و نهب المال العام الذي ساد و يسود جميع البلدان العربية ، ذوات الأغلبية المسلمة بدون استثناء ! بلاد جميلة ، وقع في حبها من أول نظرة ، خاصة أنها تحوي الكثير الكثير من الطبيعة ! مزجت الحضارة و التكنولوجيا ، بمساحات حضراء كثيرة و غابات ، مزيج متجانس من كل الألوان ! بكل ألوان الطيف !
بالرغم من أنه درس اللغة الألمانية في بلاده و كان فيها من المتفوقين ، و كان له من الإمتياز على الكثير من المسلمين في ألمانيا أن درس الألمانية لثلاث سنوات متواصلة ، إلا أنها لم تسعفه في التواصل حينما وضع على المحك أمام الألمان ، و كان عليه أن يصل إلى حل من أجل قضاء مصالحه هناك ، و أول مصلحة هي تسوية وضعيته القانونية ، و تسليم ملفاته الإدارية إلى مصلحة الهجرة ، و التي سيتكلم عنها بإسهاب في حلقة قادمة ، انتابه ما يشبه الصدمة حينما سمع الألمان يتحدثون ، فأذنه لا تزال متعودة ، على لغة عربية ، و لهجة محلية ، صحيح أنه كان يدرس الألمانية ، غير أنه و بمجرد خروجه من الفصل ، تنقطع علاقاته بتلك اللغة ، إلى غاية الدرس الموالي ، ليسلم أذنيه ، إلى لغته المحلية ، أما في ألمانيا ، فكان الأمر مختلفا ، فالدراسة بالألمانية ، و حين الخروج ، التعامل يكون أيضا باللغة الألمانية ، و لم تكن الألمانية التي تعلمها في بلادة بمغنية شيئا عنه في بلاد الجرمان ، ليكتشف حينها أنه ما تعلم إلا أسس اللغة ، أما اللغة و فنها ، فتتواجد في ألسن الناس ، و في أسواقها الشعبية ، و في مقاهيها العجيبة ، و التي نادرا ما تخلو من آثار الخمر المدمرة ، ليجد نفسه في عزلة شبه تامة ، و ارتباك و عقدة في لسانه شديدة ، و علم أنه لو استمر في العيش و الإنزواء بين أفراد مسلمين يتكلمون العربية و اللهجات المحلية فقط ، فسيكون ضحية جديدة ، إلى جانب ضحايا عدم الإندماج ، و الذي يكون في غالبية الأحيان اختياريا ، لأن من يعيش بين أصدقاء عرب ، و لا يتكلمون الألمانية ، يظل في نقطة البداية و لا يتحرك ، في الوقت الذي يجب عليه أن يلحق سريعا بقطار الدراسة !
و الحقيقة أن الصعاب التي واجهها في أول مشواره في المانيا ، و خاصة الصعاب اللغوية ، كانت شديدة الوطئ جدا عليه ، و كانت أكبر حين اعتقد أن ما درسه في بلاده لن ينفعه بتاتا ، غير أن العكس كان صحيحا ، فما تعلمه في بلاده ، ساعده جدا في بناء ، أو تكملة بناء قدراته اللغوية ، خاصة و أنه كان ثرثارا بطبعه ، بالرغم من أنه يظهر دائما بمظهر الصموت السكوت ، أخذ في أول الأمر يتقرب من الألمان ، في الطرقات ، و في المساحات الخضراء العامة ، من العجائز و الأطفال ، و عمل في أول الأمر فقط على الإستماع لكلامهم و دردشاتهم ، وقصصهم ، و بدأ أول ما بدأ بالكلام مع الصبيان ، و الصغار ، حتى كان الآخرون يظنونه ، مجرما يتحرش بالصغار ، أو يحاول خطفهم ، لأن حالات الإختطاف التي تستهدف الأطفال في ألمانيا و أوروبا مرتفعة نسبيا ، و توضح له بالملموس أن لغته لا تساعده في التواصل ، و أن مخاطبه يلزمه من المجهود لفهمه ، ما يقضي في حينه دقائق ثمينة ، زيادة على المجهود العصبي ! فكان الحل الأمثل أن يستقر في بيئة ألمانية خالصة ، و أن يبتعد و لو قليلا عن بيئته العربية المسلمة من أجل أن يخرج من ورطته اللغوية
المشكلة الثانية التي كانت تواجهه أيضا في المجال اللغوي ، هي ضعف لغته الإنجليزية ، و هي لغة لا يستطعمها لسانه و لا فلبه ، بعكس اللغة الألمانية التي يريد فعلا إتقانها و التكلم بها ، ليجد أن اللغة الإنجليزية ، مهمة جدا ، خصوصا في مراحل دراسته المتعددة ، فأصبحت المشكلة مشكلتان ، أولاهما مقدور عليها ، غير أن الثانية سيبحث لها عن حل مرغما ، كمريض يشرب الدواء ، مر هو نعم على خلايا لسانه ، لكن مزاياه كثيرة ، بعض فضل الله !
ربما كان سبب عزوفه عن اللغة الإنجلزية ، هو ارتباطها بسياسة الأمريكان في شتى أنحاء العالم ، و جرائمها المتعددة في حق الأبرياء ، ربما هكذا كان !
كانت أيامه الأولى في هذا البلد أشبه بطفل صغير يكتشف عالما خارجيا جديدا عليه ، و كان ينظر إلى أشياء كثيرة بانبهار لم يكن ليفهمه من عاش هناك و عليه تعود ، أشياء لم يكن ليحلم برؤيتها في بلاده ، و لا في بلدان الأعراب مجتمعين ، نظام أشبه بنظام العاب الفيديو ، نظام لا نراه عادة إلا في التلفاز و أفلام الأمريكان ! الوقت مقدس جدا هاهنا ، و بناء على احترامه من عدمه ، يُحكم هنا على شخصية الإنسان ! هو الذي أتى من بلاد ، لا يحترم أغلب ساكنيها الوقت إلا لماما ! هنا الدقيقة الواحدة تفرق كثيرا ! تؤثر كثيرا ! ها هنا ، يجب على الإنسان أن ينظم حياته ! أن تكون له أجندا يدون فيها ما يجب عليه فعله يوميا ، من أجل أن تصبح آدميا بالفعل ، يجب على الإنسان أن يستورد هذي الصفات إلى بلاده ، لا أن يستورد الأشياء السلبية ! أخلاق رفيعة جعلت كل الأشياء تبدو في عيونه وردية جميلة ، جعلته يبدأ حياته من جديد ، حياة في عالم آخر ، مستقل عن كل ما عاشف في عالمه في بلده ، ساعده في ذلك ، أنه كان مؤهلا حتى حينما كان في بلاده يقطن للعيش بآدمية ، فكان منضبظا في أوقاته و مواعيده ، و يطلق عليه أصحابه لقب : الساعة مثلا ، كان بعيدا جدا عن النفاق ، و يسمي الأشياء بمسمياتها ، و الأهم من كل ذلك أنه كان يسكن مدينة كبيرة كونها بنفسه ، و اختار لها سكانها ، و مرافقها اسمها : مدينة الكتب !
قرر في حينها ، أن يعيش لوحده بعيدا ، و أن يبحث له عن مكان لا يوجد به إلا الألمان ، و يا حبذا لو كانوا من المعمرين ، لأن فيهم و معهم سوف يطور قدراته اللغوية ، و هكذا كان !...
في غد إن شاء الله تعالى :
ليندن ... فسيفساء عالمية !
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة