ذكريات طالب في بلاد الجرمان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ذكريات طالب في بلاد الجرمان

ألمانيا ـــ حياة جديدة !

  نشر في 17 يناير 2017 .

كانت مشكلته الأولى التي وجب التعامل معها مباشرة و بسرعة في بلاد ألمانيا ، هي البرد القارص ، و الذي يفعل في الأجساد فعال السياط على ظهر عار في وقت شديد القيظ ، و كم كان منظره مضحكا حينما خرج في أول ليلة له من السيارة بعد خروجه من المطار في مدينة هانوفر الألمانية ، فبمجرد ما أخرج رجليه و نصف جسده ، انتابه ما يشبه الصدمة ، و ظل لمدة تقارب الثلاثين ثانية ، كمومياء محنطة ، فليس من السهل على شخص آت من بلاد أقصى درجات الشتاء فيها 10 درجات ، أن يقاوم درجات حرارة ، وصلت في تلك الليلة إلى 25 درجة تحت الصفر ، و كأنما ترحب به ترحيب المشتاق إلى أمثاله ، فأسرع الخطى مسرعا بعد ذلك في حركات بهلوانية متألما من شدة البرد إلى الشقة التي يقطنها أحد أفراد عائلته حيث استعاد عافيته ، و كان البرد شديدا ذلك العام ، و كانت معاناته تكبر بتقلص درجات الحرارة هناك ، بالرغم من أنه كان يعشق فصل الشتاء ، غير أن التحول الشديد ، من مكان إلى مكان ، كاد يودي بحماسه الزائد نوعا ما ، و الذي رافقه إلى ألمانيا !

بهره في أول تجوال له في المدينة ، نظافتها التي لم يشهد لها مثالا إلا في التلفاز ، و الأضواء البراقة التي تزينها ، و تزين مداخلها ، كعروس زفت في يوم بهيج إلى عروسها ، هذا هو بهرج الدنيا ، و هذا زخرفها ، لم يحس في أيامه الأولى بذلك الإحساس الذي يسمونه الغربة ، غرق في أول أيامه في جمال تلك المدينة الأخاذ ، و كم بهره منظر بحيرة عملاقة تجمدت بفعل تدني الحرارة ، حتى أصبح بإمكان الناس المشي فوقها ، و هم ينظرون إلى تحرك الأسماك تحت أرجلهم ، و الغابات الكبيرة المحيطة ، و التي تأخذ العقول ، حتى بعد خلوها من الأوراق ، و ساوره شعور بالغيرة ، كيف لهذه البلاد التي لا يسجد أهلها لله رب العالمين ، و يكفرون به و يدعون له الولد و الشريك ، أن تكون لهم كل هذه النعم ، و كل هذه الأشياء التي لم يرها يوما في بلاده !

و في خلال تجوله نهارا في تلك المدينة اكتشف أول مرة مجاهرة الناس بشرب الخمر ، من قنينات يرفعونها إلى أفواههم جهارا نهارا ، فأحس بصدمة حقيقية ، عرف فيما بعد أنها نتيجة صراع حضارات ، فالحضارة الألمانية ، حتى ، و إن كانت في أقصى تقدمها الصناعي التكنولوجي ، و الإقتصادي ، لا زال يقطن بين ثناياها مشاهد مائعة ، لا تمت إلى التقدم بصلة ، كذلك المنظر الذي شاهده ، و مناظر رآها في الميترو ، حيث يمارسون حياتهم الطبيعية البهيمية ، القريبة إلى الحيوانية ، هكذا أمام الجميع ، فأحس بالخجل ، و شيئ من الإحتقان الداخلي ، و أيقن ، أن أعتى المسلمين ، الذين يأتون إلى بلاد الكفر ، و هو يعتقد أن إيمانه سوف يحميه ، و يحول بينه و بين الفتن ، يمكن بسهولة أن يسقط في الفتن المتربصة به هناك ، فبلاد الكفار هي تماما كفتنة الدجال ، و إن كانت لا توازيها في الفتك ، إلا أنها تشبهها في التصوير ، فحين خروج الدجال ، أمرنا الرسول بالإبتعاد عنه ، من شدة الفتن التي يأتي بها ، و بلاد الكفر تصغير للفتنة العوراء ، و يمكنه الآن أن يشهد على ذلك و يؤكده !

إلا أن التعاليم الإسلامية و الأخلاق المحمدية كانت في بعض الأحيان تتجلى في سماء الأالمان ، و أعين عجائزها ، و حتى شبابها ، فمظاهر الإيثار في الميترو ، و احترام المواعيد ، و نظافة الشوارع ، و احترام الناس لبعضهم البعض في الشوارع أثناء السياقة ، كانت أشياء حسبها انقرضت في هذا الزمان ، و أن ما هي إلا قصص مروية ، كان يرددها على مسامعه مدرسوا حصة التربية الإسلامية في بلاده ، ليجدها في بلاد بعيدة جدا ، اسمها جرمانيا !

كان النظام السائد ف ألمانيا ، هو انتخاب الشعب للشعب ، أو ما يصطلح عليه بحكم الشعب نفسه بنفسه ، و محاسبة الشعب لمسؤوليه ، و فضحهم إذا أمكن ، و إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء ، على صفحات الجرائد و المجلات ، و إذا لم يوفوا بعهودهم الإنتخابية االتي ما فتؤوا يصدعون رؤوس الشعب بها ! نظام جميل ، غير أن له من السلبيات ما له ، و أفضل منه نظام الشورى الإسلامي ، غير أنه و إحقاقا للحق ، فذلك النظام في ألمانيا ، أو في بلاد الكفر الأخرى يعطي نتائج حسنة من ناحية الإلتزام ، و محاسبة المخطئين ، و الأهم من ذلك كله ، قطع الطريق على الرشوة و الفساد الإداري ، و نهب المال العام الذي ساد و يسود جميع البلدان العربية ، ذوات الأغلبية المسلمة بدون استثناء ! بلاد جميلة ، وقع في حبها من أول نظرة ، خاصة أنها تحوي الكثير الكثير من الطبيعة ! مزجت الحضارة و التكنولوجيا ، بمساحات حضراء كثيرة و غابات ، مزيج متجانس من كل الألوان ! بكل ألوان الطيف !

بالرغم من أنه درس اللغة الألمانية في بلاده و كان فيها من المتفوقين ، و كان له من الإمتياز على الكثير من المسلمين في ألمانيا أن درس الألمانية لثلاث سنوات متواصلة ، إلا أنها لم تسعفه في التواصل حينما وضع على المحك أمام الألمان ، و كان عليه أن يصل إلى حل من أجل قضاء مصالحه هناك ، و أول مصلحة هي تسوية وضعيته القانونية ، و تسليم ملفاته الإدارية إلى مصلحة الهجرة ، و التي سيتكلم عنها بإسهاب في حلقة قادمة ، انتابه ما يشبه الصدمة حينما سمع الألمان يتحدثون ، فأذنه لا تزال متعودة ، على لغة عربية ، و لهجة محلية ، صحيح أنه كان يدرس الألمانية ، غير أنه و بمجرد خروجه من الفصل ، تنقطع علاقاته بتلك اللغة ، إلى غاية الدرس الموالي ، ليسلم أذنيه ، إلى لغته المحلية ، أما في ألمانيا ، فكان الأمر مختلفا ، فالدراسة بالألمانية ، و حين الخروج ، التعامل يكون أيضا باللغة الألمانية ، و لم تكن الألمانية التي تعلمها في بلادة بمغنية شيئا عنه في بلاد الجرمان ، ليكتشف حينها أنه ما تعلم إلا أسس اللغة ، أما اللغة و فنها ، فتتواجد في ألسن الناس ، و في أسواقها الشعبية ، و في مقاهيها العجيبة ، و التي نادرا ما تخلو من آثار الخمر المدمرة ، ليجد نفسه في عزلة شبه تامة ، و ارتباك و عقدة في لسانه شديدة ، و علم أنه لو استمر في العيش و الإنزواء بين أفراد مسلمين يتكلمون العربية و اللهجات المحلية فقط ، فسيكون ضحية جديدة ، إلى جانب ضحايا عدم الإندماج ، و الذي يكون في غالبية الأحيان اختياريا ، لأن من يعيش بين أصدقاء عرب ، و لا يتكلمون الألمانية ، يظل في نقطة البداية و لا يتحرك ، في الوقت الذي يجب عليه أن يلحق سريعا بقطار الدراسة !

و الحقيقة أن الصعاب التي واجهها في أول مشواره في المانيا ، و خاصة الصعاب اللغوية ، كانت شديدة الوطئ جدا عليه ، و كانت أكبر حين اعتقد أن ما درسه في بلاده لن ينفعه بتاتا ، غير أن العكس كان صحيحا ، فما تعلمه في بلاده ، ساعده جدا في بناء ، أو تكملة بناء قدراته اللغوية ، خاصة و أنه كان ثرثارا بطبعه ، بالرغم من أنه يظهر دائما بمظهر الصموت السكوت ، أخذ في أول الأمر يتقرب من الألمان ، في الطرقات ، و في المساحات الخضراء العامة ، من العجائز و الأطفال ، و عمل في أول الأمر فقط على الإستماع لكلامهم و دردشاتهم ، وقصصهم ، و بدأ أول ما بدأ بالكلام مع الصبيان ، و الصغار ، حتى كان الآخرون يظنونه ، مجرما يتحرش بالصغار ، أو يحاول خطفهم ، لأن حالات الإختطاف التي تستهدف الأطفال في ألمانيا و أوروبا مرتفعة نسبيا ، و توضح له بالملموس أن لغته لا تساعده في التواصل ، و أن مخاطبه يلزمه من المجهود لفهمه ، ما يقضي في حينه دقائق ثمينة ، زيادة على المجهود العصبي ! فكان الحل الأمثل أن يستقر في بيئة ألمانية خالصة ، و أن يبتعد و لو قليلا عن بيئته العربية المسلمة من أجل أن يخرج من ورطته اللغوية

المشكلة الثانية التي كانت تواجهه أيضا في المجال اللغوي ، هي ضعف لغته الإنجليزية ، و هي لغة لا يستطعمها لسانه و لا فلبه ، بعكس اللغة الألمانية التي يريد فعلا إتقانها و التكلم بها ، ليجد أن اللغة الإنجليزية ، مهمة جدا ، خصوصا في مراحل دراسته المتعددة ، فأصبحت المشكلة مشكلتان ، أولاهما مقدور عليها ، غير أن الثانية سيبحث لها عن حل مرغما ، كمريض يشرب الدواء ، مر هو نعم على خلايا لسانه ، لكن مزاياه كثيرة ، بعض فضل الله !

ربما كان سبب عزوفه عن اللغة الإنجلزية ، هو ارتباطها بسياسة الأمريكان في شتى أنحاء العالم ، و جرائمها المتعددة في حق الأبرياء ، ربما هكذا كان !

كانت أيامه الأولى في هذا البلد أشبه بطفل صغير يكتشف عالما خارجيا جديدا عليه ، و كان ينظر إلى أشياء كثيرة بانبهار لم يكن ليفهمه من عاش هناك و عليه تعود ، أشياء لم يكن ليحلم برؤيتها في بلاده ، و لا في بلدان الأعراب مجتمعين ، نظام أشبه بنظام العاب الفيديو ، نظام لا نراه عادة إلا في التلفاز و أفلام الأمريكان ! الوقت مقدس جدا هاهنا ، و بناء على احترامه من عدمه ، يُحكم هنا على شخصية الإنسان ! هو الذي أتى من بلاد ، لا يحترم أغلب ساكنيها الوقت إلا لماما ! هنا الدقيقة الواحدة تفرق كثيرا ! تؤثر كثيرا ! ها هنا ، يجب على الإنسان أن ينظم حياته ! أن تكون له أجندا يدون فيها ما يجب عليه فعله يوميا ، من أجل أن تصبح آدميا بالفعل ، يجب على الإنسان أن يستورد هذي الصفات إلى بلاده ، لا أن يستورد الأشياء السلبية ! أخلاق رفيعة جعلت كل الأشياء تبدو في عيونه وردية جميلة ، جعلته يبدأ حياته من جديد ، حياة في عالم آخر ، مستقل عن كل ما عاشف في عالمه في بلده ، ساعده في ذلك ، أنه كان مؤهلا حتى حينما كان في بلاده يقطن للعيش بآدمية ، فكان منضبظا في أوقاته و مواعيده ، و يطلق عليه أصحابه لقب : الساعة مثلا ، كان بعيدا جدا عن النفاق ، و يسمي الأشياء بمسمياتها ، و الأهم من كل ذلك أنه كان يسكن مدينة كبيرة كونها بنفسه ، و اختار لها سكانها ، و مرافقها اسمها : مدينة الكتب !

قرر في حينها ، أن يعيش لوحده بعيدا ، و أن يبحث له عن مكان لا يوجد به إلا الألمان ، و يا حبذا لو كانوا من المعمرين ، لأن فيهم و معهم سوف يطور قدراته اللغوية ، و هكذا كان !...

في غد إن شاء الله تعالى :

ليندن ... فسيفساء عالمية !


  • 1

  • يعقوب مهدي
    اشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة
   نشر في 17 يناير 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا