الداروينية الحديثة: بين جدلية الدين و العلم
نشر في 25 أكتوبر 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
اذا ما تصفحنا التاريخ الغربي قبل داروين بنظرة نقدية حول احتدام الصراع بين اللاّهوت و العلم، فاليقين له مع تلكم النهضة ما بين (1400-1600م) رجوع القهقرى زمنيا، هي النهضة الاوروبية..حين صرّح العالم الفلكي البولندي الاصل "نيكولاس كوبيرنيكوس" (1473-1543م) علنا في كتابه "حول دوران الاجرام السماوية" 1543م بمركزية الشمس و دوران باقي الكواكب و الاجرام السماوية حولها في مسار دائري، تتخد فيه الارض حركة مزدوجة: دوران حول نفسها و آخر حول الشمس، مزيحا إياها من عرش تربعته قرونا ً مضتْ في حضن الفلسفة الأرسطية و فلكية بطليموس التي ندّدت بمركزية الارض و ثباتها فيما نسميه اليوم بالنظام الشمسي. وهي النظرية الأرثودكسية المدعمة بنصوص الكتاب المقدس، والقابعة تحت تأييد اللاّهوتيين المسيحيين..ذلك أن الانسان هو مركز الكون كلّ مسخّر لخدمته، الشيئ الذي يعطيه قداسة تجعل تغيير موقعه من هاته المركزية عزاء..لذا كان الجدل و الخلاف كبيرا حول الثورة الكوبرنيكية لا سيما من طرف الإكليروس و البروتسانت..حقا كانت ضربة موجعة للبشرية و تمهيدا لدخول ابواب معرفية علمية و أيديولوجيات جديدة حول فهم الانسان للوجود.
و في النصف الثاني من القرن 19م، و مع زعزعة النظرة المتبناة حول ثبات الارض و حداثتها ستخلق جدلية كبرى في علم الاحياء أو البيولوجيا؛ حين أصدر عالم التاريخ الطبيعي البريطاني "تشارلز داروين" (1809-1882م) بعد انتهائه من رحلته عبر بحار العالم على متن سفينة "البيغل" و مرور عقدين على ذلك، كتابه "أصل الانواع" سنة 1859م، الذي يتحدث عن نظرية التطور مفسرا بذلك نشأة الانواع وتنوع الكائنات..لكن في قالب علمي عقلاني غير ميتافيزيقي.
تقول النظرية ان نشأة الانواع و الكائنات قد جاء من اصل و سلف مشترك..خلية بدائية تطورت مع مرور الزمان لتصبح كائنات اخرى..ثم هاته الأخيرة تطورت و تكيفت مع بيئتها لتعطي انواعا اخرى تطورت ايضا وهكذا..نشوء من أصل واحد ثم ارتقاء بالتطور الى كائنات اخرى..
جاء في الفصل الاول من كتاب أستاذ الأحياء بجامعة شيكاغو بأمريكا "جيري كوين" "لماذا التطور حقيقة ؟" (في الاساس،فان النظرية الحديثة للتطور سهلة الفهم يمكن تلخيصها في جملة واحدة (و ان كانت طويلة قليلا) : تطورت الحياة تدريجيا على الارض من نوع بدائي واحد-ربما جزيء ناسخ لنفسه-والذي عاش منذ أكثر من 3,5 مليار سنة مضت، و آلية معظم التغير التطوري-لكن ليس كله هي الانتخاب الطبيعي)، وقد اصاب في هذا التعريف الموجز بذكره أهم أساسيات النظرية وهي :التطور،التدرجية و الاستنواع (الانقسام الى انواع)، السلف المشترك، الانتخاب الطبيعي،و آليات التغير التطوري غير الانتخابية.
و الجدير بالذكر انّ بعض العلماء و الباحثين لهم السبق في التحدث عن التطور،منهم على الحصر جدّه الطبيب و الفيلسوف الطبيعي "إراسموس داروين" (1731-1802م)، و عالم النبات و الحيوان "جون لامارك" الذي تركزت اهتماماته حول التطور بشكله الاول،و له مؤلفات في ذلك منها: "فلسفة علم الحيوان" 1802م، "الفلسفة الحيوانية" 1809م، و "التاريخ الطبيعي للحيوانات اللاّفقرية" سنة 1815م.و ظهورها ولو بشكل بدائي عند الفيلسوف الاغريقي "أنكسمندر" حول اصل الحياة، و هذه الاقتراحات النظرية التطورية البدائية تحدث فيها المسلون كالجاحظ في كتابه "كتاب الحيوان" في القرن 9م، و ايضا ابن خلدون في كتابه "المقدمة"، و الكاتب "ابوعلي احمد بن محمد بن مسكويه الخازن" في "تهذيب الاخلاق" و "الفوز الاصغر"...
لكن ما ميز عمل داروين هو اعطاؤه صبغة علمية و طريقة عمل تقوم على آلية الانتخاب الطبيعي.
ستكون المواجهة المحتدمة بين بعض الدينيين و التطوريين عند ظهور كتاب "نشأة الانسان و الانتخاب الجنسي" لداروين، و الذي تحدث فيه عن أن الانسان جزء من سلسلة التطور الكبرى التي امتدت منذ اكثر من 3,5 مليار سنة، ذلك أن الانسان له سلف مشترك مع باقي الكائنات و الاقرب له هو القرد..و هذا يناهض التصور الديني الذي ينبني على أساس الخلق المباشر في الاديان الابراهيمية.و نشير هنا الى ان النظرة العامية التي مفادها ان الانسان اصله قرد هي خاطئة حتى النخاع لا تبث لداروين في كتابه اية صلة، فهذا الاخير قال ان للانسان سلفا مشتركا مع القردة لا تطور الانسان عن قرد، و الداروينية الحديثة بالمثل تقول ان آلية الانتخاب الطبيعي و التكيف مع البيئة الى جانب الطفرات و الانحراف الجيني و غيرها من ميكانزمات التطور ادت الى ظهور انواع اخرى من نفس السلف المشترك تمثلت في الانسان و القردة، كما يظهر السجل الاحفوري حيث تظهر الاشكال الانتقالية تماما حيث ينبغي ان تكون.
و لا شك انه في عصر داروين كانت العلوم ما زالت في مهدها ،اما مع تطور و ظهور علوم اخرى كعلم الاجنة و التشريح و المتحجرات و علم الوراثة و الجينات و الحمض النووي بتسلسلاته و الطفرات الوراثية و الحلقات الانتقالية و غيرها هو ما دعم نظرية التطور و ساهم في نشوء ما نسميه اليوم "الداروينية الحديثة".
و لعل هذا التصور النمطي(حول كون الانسان اصله قرد) لنظرية التطور لا سيما في الاوساط الدينية (و نختص ما يتعلق بنا اي الاسلامية منها) هو الذي يجعل الاغلبية من العامة يرفضونها رفض السامع لا الباحث عن الحقيقة و المعرفة!!
يقول"جيري كوين" في كتابه "لماذا التطور حقيقة؟" (صحيح ان التطور راسخ بقوة كحقيقية علمية و لا يحتاج علماء الاحياء الى اقناع اكثر.لكن الامور مختلفة خارج الدوائر العلمية.فالبنسبة للكثيرين يزعج التطور احساسهم بالنفس..) و يستمر بالقول:(...فهل لوجودنا اي غاية او معنى يميزنا عن الكائنات الاخرى؟ اعتقد البعض كذلك ان التطور يزيل الاخلاق فإن كنا-برغم كل شيئ ببساطة حيوانات، فلماذا لا نتصرف كالحيوانات؟ مالذي يبقينا أخلاقيين،ان كنا لسنا اكثر من قرود ذوي أدمغة كبيرة؟ لا نظرية علمية اخرى تسبب مثل هذا الازعاج لعوام الناس.انه لمن الواضح ان هذه المقاومة تنشأ الى حد بعيد من الدين...)
و مع تطور الاحداث في الغرب و ارتباط الداروينية بالمادية بدأت تظهر مساحات مظلمة لايستطيع العلم تفسيرها آنذاك..فقامت محاولات اصلاحية في امريكا خاصة، للدين المسيحي و اليهودي مع الداروينية ذلك ان الدين وحده من يستطيع سد ثغرات كثيرة في تلك النظرية التي رغم تطويرها لم تستطع ملء تلك الفراغات و المساحات المظلمة. يقول الدكتور "عمرو عبد العزيز صلاح" في كتابه "الداروينية المتاسلمة": ( هكذا بدأت الداروينية التطورية تتصالح في وجل الدين بقيادة علماء اشباه قساوسة و حاخامات، و ظهرت الى الوجود نظرية اسمها "التصميم الذكي" اغلب دعاتها يؤمنون بالتطور لكنهم يقولون ان الله هو من صنع هذا التطور، ولا تفسير لذلك التعقيد الهائل في الكائنات و الذي يحير التطوريين الملحدين الا بوجود إله يقود هذه العملية...)
و ستنتقل المعركة الى الساحة الاسلامية و ستتضارب التصورات و التفسيرات الدينية في ضوء القرآن و السنة لا سيما في مسألة خلق الانسان (خلق آدم) و التي يشير اليها القرآن في بضع من آياته، بين مؤيد و معارض و هذا ما نشهده الى يومنا هذا..
يقول المفكر المسلم الهندي المعاصر "وحيد الدين خان" في كتابه "الاسلام يتحدى": ( هناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين و لكنهم، لشدة تاثرهم بالفكر الحديث، يرون ان كل ما توصل اليه أئمة الغرب يعد من المسلمات العلمية، و من ثم تقتصر بطولتهم على اثبات هذه النظريات،التي سلم بها علماء الغرب،هي نفس ما ورد في القرآن الكريم و كتب الاحاديث الاخرى) و يتم قوله بعد ذلك: ( و اوضح مثال في هذا،هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا "نظرية النشوء و الارتقاء"، لان علماء الغرب اعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها،بعددراساتهم و مشاهداتهم، و اضطروا بناء على هدا الى تفسير جديد للاسلام في ضوء النظرية الجديدة،و حين احتاجوا الى لباس جديد،قاموا بتفصيل ثوب للاسلام مرة اخرى، ولكنه ثوب مشوه المعالم، لا اثر فيه من روح الاسلام، التي ضاعت مع الاجزاء المقطعة في عمليىة التلفيق الجديدة)، و يقول الدكتور عمرو عبد العزيز صلاح في كتابه "الداروينية المتاسلمة": (اراد العقلانيون المسلمون محاكاة عقلانيي العرق التاريخي الغربي، في ترويج ان دينهم يقبل نظرية التطور، و القذة بالقذة قاموا طبعا بترويج الداروينية بالاسلام عنوة، و بالرغم من انها ملحدة اصلا و لايصح الزواج منها، الا انهم انطقوها الشهادتين بعجالة ثم اعلنوا انتصارهم: قد تزوجت الداروينية بالاسلام..هكذا خرج الى النور مولودها المشوه:الداروينية المتاسلمة!) .
لكن الفئة المؤيدة لنظرية التطور حاولت الدفاع عن فكرتها ذلك ان تفسير النص الديني يبقى قاصرا و مجرد افهام بشرية قابلة للتخطئة و اعادة التفسير في ضوء المنهج العلمي،لدا و من تم لزم بذل جهد اكبر في النظر الى النصوص الدينية و عدم اعطائها صبغة القطعية لاسيما تلك التي تشير الى مسالة الخلق و بعض الاشارات العلمية في مناحي اخرى...كما ذهب البعض الى الاستدلال بالآيات القرآنية لتاكيد ان الاسلام لا يعارض نظرية التطور،كامثال الدكتور "عبد الصبور شاهين" و "عمرو شريف"، لكن النظرة الاسلامية تتبنى في ذلك المنهج التطويري: معنى ذلك ان الله عز وجل هو المسؤول عن مسالة التطور هاته وفي دلك قول...
جاء في دورية "نيتسر العالمية" مقال للعالمة الاردنية المتخصصة في بيولوجيا الخلية "رنا الدجاني" بعنوان "لمادا ادرس الطلبة المسلمين نظرية التطور؟" التالي: (لقد قدم علماء دين مسلمون،مثل حسين الجسر و احمد مدحت في ثمانينيات القرن التاسع عشر،كتابات تدعم التطور. بل وحتى قبل داروين ،كان الجاحظ و غيره قد اقترحوا نظريات تطورية بدائية في القرن التاسع و اشير لطلبتي ان هدا التناقض الظاهري ما بين قبول نظرية التطور و الالتزام بالاسلام لم ينشأ الا في القرن العشرين، عندما اصبحت افكار داروين مرتبطة في الاذهان بحقبة الاستعمار و الامبريالية و الغرب،و الالحاد،و المادية والعنصرية)، و تختتم بالقول: (إنّ هدفي هو تعليم الطلاب كيفية تطوير منهجية عقلانية لتقييم العالم الطبيعي وللتوصل إلى آرائهم وفرضياتهم ونظرياتهم الخاصة، وليس النقل والنسخ عن الآخرين. إنها دعوة لطرق جديدة للتفكير: رحلة إلى السعي وراء المعرفة، والتي تعدّ واحدا من مبادئ الإسلام الأساسية. وإذا نجحنا في هذا المسعى، فإننا سوف نساهم في خلق جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية التفكير).
التعليقات
كتبه المهندس حمو حمو من الجزائر