رأيت الدنيا
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون
نشر في 28 فبراير 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
تدور الحياة دورتها لتثبت لكل ذي بصيرة ما هي عليه من خسة ووضاعة .. حتى ولو تدرّجتَ بها أعلى المنازل ... وما تحويه من غُصَّة ومرارة .. حتى ولو ذقت فيها الشهد والسلوى .. . فأصعب ما فيها الحرمان .. وأصعب الحرمانِ حرمانُ ما بعد العطاء .. فكلما أعطتك من خيرها وعزها .. نغَّصَت عليك بهموم الفقد .. وتذكر ساعة السلب والتأمل في عِبر الدهر .. وكأنها لا تصفو حتى للصّفوة .. فإنهم في مرمى سهامها وفي مجال غدرها ... فتكون آمنَ من غدرها وأنت مسلوب .. وأسلمَ من بطشها وأنت محروم .. وأبعد عن ظلمها وأنت وضيع .. وأنأى عن شرها وأنت حزين .. فكأنها تجمع بين المتناقضات .. فتسقي بماء النار .. وتُظل بظلٍّ ذي ثلاث شُعب .. لا ظليل ولا يُغني من اللهب ..
عندما تنظر إلى أعزة الدهور وسكان القصور ومالكي الناس والدُّور ... وقد اشتدت سطوتهم وصَلُب عودهم وقويت شوكتهم .. عندما تنظر إلى أصحاب الأموال والكنوز .. وأصحاب الشهرة والنفوذ .. عندما تراهم يسيرون في الشوارع وقد أحاطتهم الألوف ، تهفو للُقيَاهُم وترنو للنظر إليهم .. عندما ترى المنعمين في الأرض وقد تمنى ضعاف النظر من أهل الشقاء أن يتلبسوا بزيٍّ كزيِّهم ويتحلوا بما تحلّوا به من ألوان النعيم ... فما تتعب حناجرهم من نداء الشقاء القديم الحديث : " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم " ...
نذكر جميعا تلك العيون الحاسدة .. وتلك القلوب المتمنية .. وتلك العقول الثائرة .. وتلك الألسُن الهامسة .. صارت الجوارح كلها خادمة لذلك النداء .. جارية في سياقه .. لا تُخطئه ولا تَحدُوا عنه ولا يشغلها غيره ..
لكن ما أمرّ العلقم بعد العسل .. وما أصعب سقوط أهل المعالي .. فإنها سنّة الزمان .. دائما في تبديل وتغيير .. فإذا جاء التمام فلا بد من النقصان .. وإذا وصلت للذروة فلا بد من الهبوط .. وإذا تلقّفتك عيون المعجبين عند المجد .. فتذكر حينما تطاردك أسهم الشامتين عند زواله .. وتحاصرك نظرات المشفقين عند ذهابه ..
عندها يكون للبؤس قول آخر ... عندها يهمس البؤساء - وقد أقرّوا بسذاجتهم - : " ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر . لولا أن مَنَّ الله علينا لخسف بنا . ويكأنه لا يفلح الكافرون " ..فكلما تعالى المرتقى كانت الهاوية أشد وأنكى .. وكلما زاد العطاء كان الحرمان أدهى وأمرّ ..
فلا يوجد في الدنيا أنعم من صاحب الستر .. الآمن في سربه .. المعافى في بدنه .. المالك قوتَ يومه .. هذا هو صاحب الدنيا .. قد خَلُصت له بحذافيرها ..
-
مؤمن حسينأجد في الكتابة ملاذا من ضوضاء البشر ومن اكتئاب الوحدة