ذكريات طالب في بلاد الجرمان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ذكريات طالب في بلاد الجرمان

الطريق إلى لوفتهانزا 1

  نشر في 14 يناير 2017 .

ذكريات طالب في بلاد الجرمان

لم يكن ذلك الإحساس لديه مألوفا ، شعر ، و هو يرمق تأشيرته التي له الدخول إلى بلاد الألمان البعيدة للدراسة ستخول ، شعر كأن شيئا غريبا داهم حياته و هو الشاب ! كان إحساسا ، ممتزجا ببعض الأسى و الحسرة التي طالما حذره أصحابه في الوقوع فيه ، أحس حينما رأى تأشيرة الدخول على جوازه ، كأن مقصا يجز قلبه من داخله ، تماما كإحساس الزهرة أو الشجرة يقطعها و يجزها البستاني تبكي على جذورها المنسية بين في المقص ، جلس في أقصى حجرته ، يسترجع شريط حياته ، يفصلها تفصيلا ، عسى أن يجد مخرجا من هذا الشعور الذي انتابه فجأة ، كمرض الأنفلونزا الذي لا يترك لصاحبه فرصة لفعل شيء ، يباغته ، و يفعل به الأفاعيل ، حتى إذا أصبح الصباح وجد نفسه غارقا في السعال و الحمى ، آهات عديدة خرجت من داخله ، أهذا هو الإحساس الذي حذره والده منه ؟ لم يدر ما يفعل ، و بدت له الأسابيع القليلة المتبقية التي تفصله عن سفره كأنها تمر مر السحاب ، و في كل ثانية كان يحاول أن يقنع نفسه أنه إحساس لن يعدو قدره ، و أن ما يعيشه الآن ليس إلا فرحة الحصول على شيء كان كل الوقت يسعى للحصول عليه ، و قرر أن ينام تلك الليلة ، و هو متأكد أن ما يعيشه الآن سيندثر بطلوع شمس يوم جديد ، و توالت الأيام و الشموس ، و لم تزدد حالته إلا سوءا ، كل شيء بدا غريبا عنه ، بدون طعم ، و لا رائحة ، و لا جمال ، ذاك الجمال الذي كان يراه في كل الأشياء بالرغم من عفن كل الأشياء المحيطة !

ما هذا الحزن الذي يراه في عيني والده كلما سمح هذا الأخير لعينيه بالإلتقاء بعينيه ؟ بركان من حزن أسود ، داخله لا عيش له و لا أمل ، يقذف حمما هوجاء لا قبل له بها ، جعلت قلبه يتفطر ، كمن كانت له شجرة ، نماها منذ أن كانت بذرة في التراب ، و منا نفسه بثمارها ، و سهر الليالي يتفقدها و يراهيها ، و حينما شبت و كبرت آثرت غيره عليه ، كانت مقلتاه تنطقان بكل شيء ، و كان هو يعلم كل شيء ، و كان في يديه أن يغير كل شيء ، و لكنه لم يفعل أي شيء !

و كعادته ، اقنع نفسه أنه القدر ، و أن طريقه هكذا هو مكتوب ، كما هي الصخور في قعر البحار قدرها أن تتحمل ضربات الأمواج ! و يا له من تفكير أبتر ذاك الذي يربط كل أخطائه بالقدر ، نعم مقدر عليك أن تفعل كذا في يوم كذا ، و هو في علم غيب الله ، غير أن الله ذاته أعطانا حرية الإختيار ، تسارعت الأيام ، و تسابقت الثواني ، و آوى إليه آصدقاءه و أخلاءه ، يودعهم و يودعونه ، يواعدهم و يواعدونه ، و يأمل في رسائلهم و أخبارهم التي هو متأكد من أنها لن تجاوز عتبة الشهر الأول من رحيله لتنقطع بعد ذلك في مساعي النسيان ، هكذـا هي الدنيا ، و هكذا هم سكانها ، هي كعكة ، متقونة الصنع في حين ، و غارقة في بحار اللا تناسق مقاديرها في أحيان كثيرة ، و الكل واجب عليه أكلها ، حتى و إن سببت له عسر الهظم !

ساد جو أسرته الصغيرة ، سحابة من حزن عميق ، حتى إن الأجواء التي كانت تمارس عادة للتخفيف من وطأة الحياة و ظروفها ، لم تعد ترى أ تسمع إلا قليلا ، و غرقت الأسرة في صمت رهيب كذلك الذي يسبق عاصفة مدمرة ، خصوصا مع حلول الأسبوع الأخير له بين أهله ، بدأت الأمور تأخد منحى آخر ، فكلما خلد إلى فراشه بجواره أخوه الأصغر أحس بحشرجة غير مطاقة ، تتلوها دموع متمردة ، يحاول بشتى الأساليب منعها من النزول ، غير أن الليلة الأخيرة في منزل أهله لم تجد عنده القوة اللازمة ، من أجل الظهور بمظهر اللامبالي ، فحينما خلد للنوم ، و فور تأكده من نوم أخيه الصغير ، بدأت الأنهار في الجريان ، و نام على وقع ضربات دمعه الموجعة ، و لم يدر أن أخاه اصطنع النوم فقط ، و أنه كان هو الآخر على موعد مع تخطي الأنهار ، حين أيقظته دمعاته الحبيبة ، في منتصف الليل الأخير ! أحس بدمعاته ، سكاكين تقطع قلبه ، ألهذا الحد يحبه هذا المشاغب الصغير ذي الرابعة عشرة عاما ؟ أهكذا يفعل فراقه فعله فيه ؟ سبحان الخالق ، ما هذه الأحاسيس ! و لم يأش أن يعلم أخاه بوعيه لجريان دموعه ، كما لم يشأ هو أن يحس به ، كل واحد كان أحرص الناس على مشاعر غيره ، ذاك المشاغب الذي يخبأ وراء شغبه ، كل الحب و التعلق ، و لكنها الدنيا ، و لكنها الدنيا !

ما لهذه السيارة تسرع الخطى ، ما بالها أين تذهب !؟ ما بال عيون والده الذي يقوده إلى طائرته التي ستشق السماء بعد ساعات ، ملئى بل ما هو حبيب ، ملئى بكل ما هو جميل ، و ملئى بكل ما هو حبيب ، يسرع الخطى ، و كان يتمنى فعلا لو أنه رجع ، غير أنها إرادة من لا عقل له ، ما بالهم يخفون عنه دمعاتهم ، و كأنه لا يعرف خباياها ، أمه التي كانت الأقوى ، أصبح لونها شاحبا ، أخته ، تداري انفعالها بابتسامة مريرة ، و أخوه الذي يشاهد الأفق من النافذة ، كهر يتابع أمه ، عنه تبتعد ، و لا يعرف للهروب و الرجوع سبيلا !

حانت اللحظة ، و لم يعرف ماذا يفعل ، و من مشيئة القدر أن كانت لحظة وداعه لأسرته ، موازية لأخرى ، لبنت تغادر أسرتها ، في اتجاه زوجها في إحدى الدول ، و كان الفراق أليما جدا ، حفزه على البكاء ، غير أنه تحمل و شد على عضلات عينه ، مخافة أن بؤلم أباه و أسرته ، حانت لحظة الفراق ، عانق كل واحد منهم ، و أتى أباه ، و لم يدر كيف انحنى على يديه لأول مرة مقبلا إياها ، يمسح وجهه بها ، و يشمهما ، و كأنما سيفعل ذلك لآخر مرة في حياته ... سارع الخطى بالدخول ، حتى لا ينهار و تنهار معه اسرته ، أخذ في الإبتعاد شيئا فشيئا ، و رمق أهله بنظرة أخيرة ، لتبدأ دموعه في الجريان ، أمام دركي مد له جوازه ، ليخاطبه :

لا تبك ، فأنت الرجل ، و اذهب و عد فسينتظرونك ، و ستفرح و يفرحون ، و نفرح نحن بأمثالك ، لا تبك ، لا تبك ! و ربت على كتفيه ، مادا له جوازه ، دخل ، و حسب أنه نجى أخيرا من فلتات دموعه ، غير أنه سمع اسمه ، التفت ، فوجد أبواه يرفعان أيديهما ، و يمنعهما الدركي من الدخول ، و هما لا يباليان ، كشخص فقد شيئا عزيزا ، و يحاول أن يقتنص أي فرصة ، و أن يستغل كل ثانية قبل أن يذهب ، و كأنه ذاهب إلى الأبد ، أراد أن يرجع ، يضمهما ، غير أنه لم يرد أن يريهما دموعه ، و قاوم رغبته الشديدة في العودة ، و غاص بين جموع المسافرين ، و لم يستطع من جديد أن يقاوم البكاء ، فبكى بكاء من فقد غاليا ، و دفنه في تراب ... !

كانت تلك المرة الأولى التي يستقل فيها هذا الجهاز المسمى طائرة ، فأضيفت الرهبة الأولى من تجربة شيئ لأول مرة إلى حزنة و ألمه ، كداخل إلى عملية جراحية مجهولة ، و كان هو بلحيته القصيرة التي بدأت في النمو خائفا من المجهول ، ففي عز ضربات الأبراج في أمريكا انطلق إلى بلاد أغلبيتها ألمان ، لا يعلم عنهم إلا ما يرى في التلفاز أو ما قرأ عنه في الكتب القليلة التي تسنى له قراءتها قبل الإنطلاق إليها ، حان الأوان ، و بدأ الناس بالدخول إلى الطائرة ، لم يفته ، و هو الذي يملأ الدين أركانه أن يأتي بالشهادتين ، و أن يردد الأذكار ، فهذه التجربة لم يخضها في حياته من قبل ،دخل الطائرة ، بحث عن مقعده ، و دموعه لا تزال تملأ عيونه ، و في جواره ألمانية ترمقه باستغراب ، فهي لا تفهم كون مسلم من بلاد عربية يجثت من جذوره ، برضاه ، ليذهب إلى بلاد لا يعرفها ، حيث لا أسرة هناك تشعره بالدفئ الذي لم يعرف قيمته إلا في هذه اللحظات ، جلس ، و ربط حزامه ، و أخذ ينظر إلى أرض بلاده ، يااااااه كم أنت جميلة ، بالرغم من كل ما فيك فأنت جميلة ، لا أراك الله مكروها ، أعدك إن كتب الله لي حياة أن أعود إليك ، هكذا كان يحدث نفسه !

أحس بالطائرة تتحرك ، و فقد في ثوان الإحساس ببطنه ، و علم بعد ذلك أن ذلك يسمى الإقلاع ، و نظر من النافذة ، فتراءت له الأرض التي شب فيها و ترعرع ، تبتعد كما تبتعد النجوم في سماء ـ حط رأسه على كرسيه ، و حاول النوم ، و راح في نومة ساعة خفيفة ، شعر خلالها و قبلها ، أنه أصبح مسؤولا عن نفسه ، و أن عليه أن يصل إلى هدف رسمه ، و أن هذه النومة هي أول نومة له في دنياة التي عليه رسمها ، تماما كما يرسم لوحاته كل يوم ، و يجسد أحاسيسه رسومات يخطف بها قلب كل مر يراها !

مهدي يعقوب


  • 9

  • يعقوب مهدي
    اشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة
   نشر في 14 يناير 2017 .

التعليقات

للحظات عشت مع النص الجميل، وعدت بالذاكره ثلاث سنوات ، نفس التجربة
والاحاسيس وقعت لي حين سافرت لاول مرة للدراسه في فرنسا.. وصف وسرد رائع اخي!
0
يعقوب مهدي
بارك الله فيك يا الحبيب
Rahma Daigham منذ 7 سنة
جميلة اوي حقا من اجمل ما قرأت.. هي أوطاننا التي حكمت علينا بالهوان سواء داخلها أو خارجها اعادك الله لوطنك وأهلك سالما غانما
1
يعقوب مهدي
تابعيها يا رحمة ، هذه أول حلة من عشرات الحلقات ، سأنشر حلة كل يوم إن شاء الله
Rahma Daigham
سيكون هذا شرف لي أن أقرأ مثل هذه السطور .. وفقك الله :)

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا