ذكريات طالب في بلاد الجرمان
لم يكن ذلك الإحساس لديه مألوفا ، شعر ، و هو يرمق تأشيرته التي له الدخول إلى بلاد الألمان البعيدة للدراسة ستخول ، شعر كأن شيئا غريبا داهم حياته و هو الشاب ! كان إحساسا ، ممتزجا ببعض الأسى و الحسرة التي طالما حذره أصحابه في الوقوع فيه ، أحس حينما رأى تأشيرة الدخول على جوازه ، كأن مقصا يجز قلبه من داخله ، تماما كإحساس الزهرة أو الشجرة يقطعها و يجزها البستاني تبكي على جذورها المنسية بين في المقص ، جلس في أقصى حجرته ، يسترجع شريط حياته ، يفصلها تفصيلا ، عسى أن يجد مخرجا من هذا الشعور الذي انتابه فجأة ، كمرض الأنفلونزا الذي لا يترك لصاحبه فرصة لفعل شيء ، يباغته ، و يفعل به الأفاعيل ، حتى إذا أصبح الصباح وجد نفسه غارقا في السعال و الحمى ، آهات عديدة خرجت من داخله ، أهذا هو الإحساس الذي حذره والده منه ؟ لم يدر ما يفعل ، و بدت له الأسابيع القليلة المتبقية التي تفصله عن سفره كأنها تمر مر السحاب ، و في كل ثانية كان يحاول أن يقنع نفسه أنه إحساس لن يعدو قدره ، و أن ما يعيشه الآن ليس إلا فرحة الحصول على شيء كان كل الوقت يسعى للحصول عليه ، و قرر أن ينام تلك الليلة ، و هو متأكد أن ما يعيشه الآن سيندثر بطلوع شمس يوم جديد ، و توالت الأيام و الشموس ، و لم تزدد حالته إلا سوءا ، كل شيء بدا غريبا عنه ، بدون طعم ، و لا رائحة ، و لا جمال ، ذاك الجمال الذي كان يراه في كل الأشياء بالرغم من عفن كل الأشياء المحيطة !
ما هذا الحزن الذي يراه في عيني والده كلما سمح هذا الأخير لعينيه بالإلتقاء بعينيه ؟ بركان من حزن أسود ، داخله لا عيش له و لا أمل ، يقذف حمما هوجاء لا قبل له بها ، جعلت قلبه يتفطر ، كمن كانت له شجرة ، نماها منذ أن كانت بذرة في التراب ، و منا نفسه بثمارها ، و سهر الليالي يتفقدها و يراهيها ، و حينما شبت و كبرت آثرت غيره عليه ، كانت مقلتاه تنطقان بكل شيء ، و كان هو يعلم كل شيء ، و كان في يديه أن يغير كل شيء ، و لكنه لم يفعل أي شيء !
و كعادته ، اقنع نفسه أنه القدر ، و أن طريقه هكذا هو مكتوب ، كما هي الصخور في قعر البحار قدرها أن تتحمل ضربات الأمواج ! و يا له من تفكير أبتر ذاك الذي يربط كل أخطائه بالقدر ، نعم مقدر عليك أن تفعل كذا في يوم كذا ، و هو في علم غيب الله ، غير أن الله ذاته أعطانا حرية الإختيار ، تسارعت الأيام ، و تسابقت الثواني ، و آوى إليه آصدقاءه و أخلاءه ، يودعهم و يودعونه ، يواعدهم و يواعدونه ، و يأمل في رسائلهم و أخبارهم التي هو متأكد من أنها لن تجاوز عتبة الشهر الأول من رحيله لتنقطع بعد ذلك في مساعي النسيان ، هكذـا هي الدنيا ، و هكذا هم سكانها ، هي كعكة ، متقونة الصنع في حين ، و غارقة في بحار اللا تناسق مقاديرها في أحيان كثيرة ، و الكل واجب عليه أكلها ، حتى و إن سببت له عسر الهظم !
ساد جو أسرته الصغيرة ، سحابة من حزن عميق ، حتى إن الأجواء التي كانت تمارس عادة للتخفيف من وطأة الحياة و ظروفها ، لم تعد ترى أ تسمع إلا قليلا ، و غرقت الأسرة في صمت رهيب كذلك الذي يسبق عاصفة مدمرة ، خصوصا مع حلول الأسبوع الأخير له بين أهله ، بدأت الأمور تأخد منحى آخر ، فكلما خلد إلى فراشه بجواره أخوه الأصغر أحس بحشرجة غير مطاقة ، تتلوها دموع متمردة ، يحاول بشتى الأساليب منعها من النزول ، غير أن الليلة الأخيرة في منزل أهله لم تجد عنده القوة اللازمة ، من أجل الظهور بمظهر اللامبالي ، فحينما خلد للنوم ، و فور تأكده من نوم أخيه الصغير ، بدأت الأنهار في الجريان ، و نام على وقع ضربات دمعه الموجعة ، و لم يدر أن أخاه اصطنع النوم فقط ، و أنه كان هو الآخر على موعد مع تخطي الأنهار ، حين أيقظته دمعاته الحبيبة ، في منتصف الليل الأخير ! أحس بدمعاته ، سكاكين تقطع قلبه ، ألهذا الحد يحبه هذا المشاغب الصغير ذي الرابعة عشرة عاما ؟ أهكذا يفعل فراقه فعله فيه ؟ سبحان الخالق ، ما هذه الأحاسيس ! و لم يأش أن يعلم أخاه بوعيه لجريان دموعه ، كما لم يشأ هو أن يحس به ، كل واحد كان أحرص الناس على مشاعر غيره ، ذاك المشاغب الذي يخبأ وراء شغبه ، كل الحب و التعلق ، و لكنها الدنيا ، و لكنها الدنيا !
ما لهذه السيارة تسرع الخطى ، ما بالها أين تذهب !؟ ما بال عيون والده الذي يقوده إلى طائرته التي ستشق السماء بعد ساعات ، ملئى بل ما هو حبيب ، ملئى بكل ما هو جميل ، و ملئى بكل ما هو حبيب ، يسرع الخطى ، و كان يتمنى فعلا لو أنه رجع ، غير أنها إرادة من لا عقل له ، ما بالهم يخفون عنه دمعاتهم ، و كأنه لا يعرف خباياها ، أمه التي كانت الأقوى ، أصبح لونها شاحبا ، أخته ، تداري انفعالها بابتسامة مريرة ، و أخوه الذي يشاهد الأفق من النافذة ، كهر يتابع أمه ، عنه تبتعد ، و لا يعرف للهروب و الرجوع سبيلا !
حانت اللحظة ، و لم يعرف ماذا يفعل ، و من مشيئة القدر أن كانت لحظة وداعه لأسرته ، موازية لأخرى ، لبنت تغادر أسرتها ، في اتجاه زوجها في إحدى الدول ، و كان الفراق أليما جدا ، حفزه على البكاء ، غير أنه تحمل و شد على عضلات عينه ، مخافة أن بؤلم أباه و أسرته ، حانت لحظة الفراق ، عانق كل واحد منهم ، و أتى أباه ، و لم يدر كيف انحنى على يديه لأول مرة مقبلا إياها ، يمسح وجهه بها ، و يشمهما ، و كأنما سيفعل ذلك لآخر مرة في حياته ... سارع الخطى بالدخول ، حتى لا ينهار و تنهار معه اسرته ، أخذ في الإبتعاد شيئا فشيئا ، و رمق أهله بنظرة أخيرة ، لتبدأ دموعه في الجريان ، أمام دركي مد له جوازه ، ليخاطبه :
لا تبك ، فأنت الرجل ، و اذهب و عد فسينتظرونك ، و ستفرح و يفرحون ، و نفرح نحن بأمثالك ، لا تبك ، لا تبك ! و ربت على كتفيه ، مادا له جوازه ، دخل ، و حسب أنه نجى أخيرا من فلتات دموعه ، غير أنه سمع اسمه ، التفت ، فوجد أبواه يرفعان أيديهما ، و يمنعهما الدركي من الدخول ، و هما لا يباليان ، كشخص فقد شيئا عزيزا ، و يحاول أن يقتنص أي فرصة ، و أن يستغل كل ثانية قبل أن يذهب ، و كأنه ذاهب إلى الأبد ، أراد أن يرجع ، يضمهما ، غير أنه لم يرد أن يريهما دموعه ، و قاوم رغبته الشديدة في العودة ، و غاص بين جموع المسافرين ، و لم يستطع من جديد أن يقاوم البكاء ، فبكى بكاء من فقد غاليا ، و دفنه في تراب ... !
كانت تلك المرة الأولى التي يستقل فيها هذا الجهاز المسمى طائرة ، فأضيفت الرهبة الأولى من تجربة شيئ لأول مرة إلى حزنة و ألمه ، كداخل إلى عملية جراحية مجهولة ، و كان هو بلحيته القصيرة التي بدأت في النمو خائفا من المجهول ، ففي عز ضربات الأبراج في أمريكا انطلق إلى بلاد أغلبيتها ألمان ، لا يعلم عنهم إلا ما يرى في التلفاز أو ما قرأ عنه في الكتب القليلة التي تسنى له قراءتها قبل الإنطلاق إليها ، حان الأوان ، و بدأ الناس بالدخول إلى الطائرة ، لم يفته ، و هو الذي يملأ الدين أركانه أن يأتي بالشهادتين ، و أن يردد الأذكار ، فهذه التجربة لم يخضها في حياته من قبل ،دخل الطائرة ، بحث عن مقعده ، و دموعه لا تزال تملأ عيونه ، و في جواره ألمانية ترمقه باستغراب ، فهي لا تفهم كون مسلم من بلاد عربية يجثت من جذوره ، برضاه ، ليذهب إلى بلاد لا يعرفها ، حيث لا أسرة هناك تشعره بالدفئ الذي لم يعرف قيمته إلا في هذه اللحظات ، جلس ، و ربط حزامه ، و أخذ ينظر إلى أرض بلاده ، يااااااه كم أنت جميلة ، بالرغم من كل ما فيك فأنت جميلة ، لا أراك الله مكروها ، أعدك إن كتب الله لي حياة أن أعود إليك ، هكذا كان يحدث نفسه !
أحس بالطائرة تتحرك ، و فقد في ثوان الإحساس ببطنه ، و علم بعد ذلك أن ذلك يسمى الإقلاع ، و نظر من النافذة ، فتراءت له الأرض التي شب فيها و ترعرع ، تبتعد كما تبتعد النجوم في سماء ـ حط رأسه على كرسيه ، و حاول النوم ، و راح في نومة ساعة خفيفة ، شعر خلالها و قبلها ، أنه أصبح مسؤولا عن نفسه ، و أن عليه أن يصل إلى هدف رسمه ، و أن هذه النومة هي أول نومة له في دنياة التي عليه رسمها ، تماما كما يرسم لوحاته كل يوم ، و يجسد أحاسيسه رسومات يخطف بها قلب كل مر يراها !
مهدي يعقوب
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة
التعليقات
والاحاسيس وقعت لي حين سافرت لاول مرة للدراسه في فرنسا.. وصف وسرد رائع اخي!