حبر على ورق! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حبر على ورق!

قصة قصيرة تعبر عن معاناة المرأة المطلقة في المجتمعات العربية

  نشر في 25 مارس 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .



تجمع السكان عند مدخل عمارة قديمة في حي شعبي في منتصف الليل، وقد انتابتهم حالة من الانزعاج الشديد. إنها الشقة رقم 8 بالطابق الثالث كالعادة. الأستاذ فرغلي، ذلك الجار المشاكس حاد المزاج، يضرب زوجته، وهي تصرخ وتستنجد بصوت جهوري أقلق ليس فقط سكان العمارة، بل سكان الشارع كله.

قال أحد سكان العمارة بغضب: هذا وضع لا يمكن احتماله. ضرب وصراخ في هذه الشقة كل ليلة تقريبا. لابد أن نفعل شيئا مع هذا الرجل المتوحش.

رد ساكن آخر: الأفضل ألا يتدخل أحد. إنها مشاكل عائلية. رجل يؤدب زوجته. وما أدراكم أن المرأة لا تستحق الضرب؟ الكثير من نساء هذا الزمان يفعلن ما يجعل حرقهن حلال!

نظرت إليه بعض ساكنات العمارة نظرة استنكار، وكادت إحداهن أن تتلفظ عليه بما لا يليق، إلا أن الصراخ المتصاعد من الشقة رقم 8 جذب انتباه الجميع مرة أخرى. يبدو أن اعتداء الرجل على زوجته قد وصل إلى درجة الضرب المبرح.

قال أحد السكان وقد بدا عليه التوتر وقلة الصبر: سأصعد الآن وأتدخل لوقف هذه المهزلة، لن نحتمل بعد الآن كل هذا الإزعاج، ولن ننتظر حتى تحدث جريمة تسيء لسمعة العمارة والشارع كله.

رد عليه آخر: سأصعد معك ... ورد ثالث: وأنا كذلك.

صعد الثلاثة بسرعة، فضغط أحدهم على جرس الباب بدون توقف، بينما انهال الآخران طرقا على باب الشقة.

فتح الباب رجل غليظ المظهر له شارب كث. قال وهو يكاد أن ينفجر في وجوه الثلاثة: لا شأن لكم بي ولا بزوجتي، هيا اذهبوا أيها الحثالة!

كاد الرجال الثلاثة أن يذهبوا فعلا وهم في حالة استياء، ولكن ظهرت الزوجة فجأة من خلف الرجل، وهي تحمل في يدها طفل رضيع اختلط صراخه بصراخها وهي تستنجد بالرجال الثلاثة قائلة: أين تذهبون؟ هل تتركون امرأة تضرب بهذا الشكل ومعها طفلها وترحلون؟ أين الشهامة؟ أين أخلاق الرجولة؟

ويبدو أن الكلام قد أثر في الرجال، فعادوا مرة أخرى لحماية المرأة، واستطاعوا فعلا تخليصها من يد الزوج الهائج، ثم قيدوه في أحد مقاعد الشقة بعد أن نالهم منه من الأذى قولا وفعلا ما كفاهم.

خرجت المرأة بسرعة إلى أسفل العمارة حيث يجتمع السكان، فتبرع أحدهم بتوصيلها لبيت أهلها في الحي الشعبي المجاور.

في بيت الأهل، استقبلت الأم ابنتها بذهول وجزع ولهفة واشتياق: ابنتي! حبيبتي! من فعل بك ذلك؟ الجربوع! الحشرة! هل نسي أياما كان يأتينا فيها قبل الزواج يقبل الأيادي والأقدام لنرضى أن نزوجك به؟ قليل الأصل! الطلاق منه فورا، ثم أزوجك من هو أفضل منه، ألف عريس يتمنى تراب قدميك!

أما الأب، فغضب وثار وقال كلاما كثيرا عن كرامة العائلة، والإهانات التي لا تغتفر، وأن بيت الأب أولى بالبنت ومفتوح لها على الرحب والسعة.

أصرت الزوجة على الذهاب إلى محامٍ لتقديم قضية خلع من الزوج. وفي خلال ثلاثة أشهر فقط صدر الحكم بخلع الزوجة. وأصبحت الآن مطلقة وأم لطفل رضيع.

لم تمضِ بضعة أشهر حتى بدأت معاملة الأب والأم تتغير تجاه ابنتهما. وأصبح الضيق والضجر واضحين في تعاملهما اليومي مع الابنة، ثم تحول الضيق إلى نظرات وتلميحات لوم بسبب تسرعها في الطلاق، ثم تبدلت التلميحات إلى كلمات لوم وعتاب مباشر، ثم إلى تجريح وإهانات!

اختفى الكلام عن بيت الأب المفتوح لابنته، وحضن الأم الدافئ، وظهر بدلا منه كلام آخر: لا نستطيع الإنفاق عليك وعلى ابنك، لديك خمسة إخوة في سن التعليم ويحتاجون لمصروفات كثيرة، لا تحمّلينا مشاكل فشلك في الزواج، الزوجة الأصيلة كان يجب أن تتحمل زوجها في غضبه، ظِل رجل ولا ظِل حائط.

تغير كل الكلام!

ساءت المعاملة بشكل كبير لا يطاق، فاضطرت الابنة للخروج إلى العمل كموظفة استقبال في شركة سياحة. ويا لهول ما تعرضت له من تحرش لفظي وجسدي وقح في العمل. تركت العمل الأول، ثم ذهبت إلى عمل ثانٍ، وثالث. وفي كل مرة تتعرض لنفس الوقاحة. كل هذا لأنها مطلقة. فعلى الرغم من التربية العالية والأخلاق الكريمة والالتزام بالزي الإسلامي المحتشم، اجتمع حولها الذئاب البشرية الجائعة في كل مكان تخرج إليه يريدون أن ينهشوها نهشا. وكأن وصف المطلقة له من المعاني والإيحاءات في المجتمع ما يكفي لاستباحة الأعراض.

بدأ الناس في منطقة سكنها يتكلمون عن سمعتها بما يسوء، وينسجون حولها الشائعات، وينسبون لها القبيح من الأفعال، ثم طالت هذه الكلمات الأب، والأم، والإخوة الرجال، وتسببت في مشاجرات مع الجيران.

وفي يوم ذهب الأب يستشير إمام المسجد في حل لهذه المصائب، فأشار عليه بضرورة تزويجها عاجلا، ووعده بأن يبحث لها هو بنفسه عن زوج مناسب يقبل بوجود طفلها معها.

وأخيرا ظهر هذا العريس المنشود؛ تاجر بهائم، تزوج ثلاث مرات، طلّق منهم اثنتين وأمسك واحدة، ولديه منهن جميعا ثمانية من الأبناء. صحيح أن مستوى تعليمه وثقافته أقل منها بكثير، لكن يبدو أن الموقف المتأزم قد جعل الجميع يتغاضى عن هذه الفوارق والعيوب. خصوصا وأن الرجل صاحب تجارة ناجحة، ولا ينقصه المال اللازم لمستلزمات الزواج والإنفاق على بيت الزوجية.

ولكن كيف تضمن هي ألا يحدث لها من الضرب والإهانة ما حدث في زواجها الأول؟ سألت الأصدقاء والجيران، فأشار عليها بعضهم بكتابة شرط في عقد الزواج: في حالة ما إذا ضربها الزوج أو تلفظ بما يهينها، يكون من حقها ساعتها تطليق نفسها منه. والعجيب أن العريس لم يعترض على هذا الشرط في العقد، وتقبله دون أدنى مشكلة.

وخلال شهر واحد كانت إجراءات الزواج كلها قد تمت، بعد أن لم يعترض الرجل على وجود الطفل معها، بل وتعهد أن يتكفل به كواحد من أبنائه، وبعد أن لوح للأب والأم بما أغراهما من المال والهدايا.

انتقلت المرأة للعيش في بيتها الجديد، في حيٍّ راقٍ هذه المرة، وفي بيت يتناسب مستواه مع دخل الرجل. واكتشفت المرأة بعد الزواج أنها ستعيش مع زوجته الأخرى وثلاثة من الأبناء في نفس البيت. تضايقت في البداية من هذا الوضع ومن المعاملة السيئة من زوجته الأخرى، فثارت ورفضت هذه الحياة المهينة، ثم قررت أن تتحمل، لم يكن هناك حل آخر، بعد أن كاد أن يلفظها المجتمع، وعاملها أقرب الناس إليها بهذه القسوة.

بمرور الوقت ظهرت الطباع السيئة للرجل، فأصبح السب والشتم أمرا عاديا، وتحملت المرأة، وهل لديها اختيار آخر؟!

وفي يوم استيقظ سكان العمارة على صراخ في منتصف الليل قادم من الشقة في الدور الرابع؛ شقة تاجر البهائم المتزوج من امرأتين. صعد ثلاثة من سكان العمارة إلى الطابق الرابع، وظلوا يطرقون الباب بقوة حتى فتحت المرأة التي ظهر على وجهها أثر الضرب المبرح من كدمات، وتمزيق للملابس.

سألها أحدهم: سيدتي لقد سمعنا صراخا من شقتك. هل حدث لك مكروه؟

كادت المرأة أن تنهار وتخبرهم بكل شيء، وتطلب منهم توصيلها لبيت أهلها، لكن قبل أن تتفوه بكلمة، مر أمامها شريط ذكريات أسود للتجربة السابقة ... معاملة الأهل السيئة ... تحرش في العمل ... مجتمع لا يرحم امرأة إلا إذا كانت في كنف رجل قوي. أدركت المرأة أن ضرب الزوج، وإن كان عملا قاسيا سافلا، إلا أنه ليس أكثر قسوة ولا سفالة من ضربات المجتمع للمرأة المطلقة. ضرب الواحد أهون من ضرب الجميع إذن. و...

- سيدتي لماذا لا تجيبين؟ هل حدث لك مكروه؟ هل تحتاجين للمساعدة؟

أجابت المرأة في برود مفتعل: لا شكرا، لم يحدث شيء، إنها مشاكل عائلية خاصة، وأرجو منكم عدم التدخل مرة أخرى حتى لا تزداد الأمور سوءا.

ثم أغلقت الباب فورا وقبل أن ينصرف الثلاثة.

شعر الرجال بحالة من الإحراج، قال أحدهم: هل هذا جزاء الشهامة؟ هل هذا مقابل أخلاق الرجولة؟ هيا بنا يا جماعة، لن نتدخل لهؤلاء في شيء مرة أخرى، ولو أحرق بعضهم بعضا.

أما المرأة فقد أغلقت الباب، وأسندت ظهرها عليه وأغمضت عينيها في ألم، بكت وسقطت على الأرض، وظلت تبكي وتبكي حتى جفت دموعها.

و ... وفي لحظة تذكرت المرأة الشرط الذي طلبت كتابته في عقد الزواج. إن الحصول على حريتها الآن هو أمر في متناول يدها. لكن هل ستجرؤ أن تطلق نفسها بعد كل ما حدث؟ ... ارتسمت على شفتي المرأة ابتسامة باهتة رغم الألم والبكاء؛ فقد أدركت الآن أن هذا الشرط لم يعد له أية قيمة، لقد أصبح مجرد ... حبر على ورق.


  • 5

   نشر في 25 مارس 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

NoRan Abd El SaLaM منذ 8 سنة
قصة رائعة وهدف سامي
0
جمال حسين عبد الفتاح
شكرا جزيلا لك ... شرفني مرورك الكريم.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا