في الاوقات الغريبة و الصعبة لو دققت النظر في افعال الناس و حللت قصصهم لفهمت اشياء كثيرة يصعب فهمها في اوقات الرخاء.
حكى لي صديق يشتغل كطبيب عن حادثة كانت فعلا غريبة.
قال صديقي ( تفاجئت يوما، حين كنت اشتغل كطبيب في احد البلدان الغربية، من سؤال لاقدم و الطف مريضين عندي .. رجل عجوز و زوجته في نهاية السبعينات من عمرهما. اصرت السيدة على ان تسألي سؤالا غريبا لا علاقة له بسبب الزيارة ( كما قالت هي) السؤال كان كالتالي: " كم يبقى دم المتبرع في جسم المريض بعد نقله". تفاجئت من السؤال لاني كنت لا اعتقد ان له علاقة بصحة المريضة و كذلك لم تكن لدي اجابة واضحة. عندها حاولت ان أناور و قولت اجابتي الشهيرة عند اي سؤال غريب :
That is a very good question!
"هذا سؤال جيد فعلا! " مع ابتسامة صفراء باهتة املا في التنصل من الاجابة.
عموما المريضة لم تكترث و اصرت على سماع اجابتي عن سؤالها الغريب. حينها استجمعت ذكرايات الطب و الدراسة و قولت في خاطري بالمصري ( يا عم ما تهري اي حاجةو خلاص هو في حد فاهم حاجة) .. و اطلقت اجابة واضحه و هي ( الدم المنقول يبقى 28 يوم في جسمك).
لم اعرف من اين جاء هذا الرقم بالذات و لكن الاهم في هذا الموقف هو الصرامة و الدقة، خاصة و ان العجوز كانت تحدق بي بلا هوادة.
المهم، بمجرد سماعها لذلك الرقم ( او اي رقم) ابتسمت و نظرت لزوجها بنوع من الفخر و باذلها هو بأخرى.
عموما انا استغربت الموقف كثيرا. فلم افهم فحوى السؤال و لا الرضى السريع باجابتي، فقولت لها لماذا تسألين عن مدة بقاء الدم المنقول الى جسمك و لم تعري إهتماما كبيرا للفيروسات المعدية و فقر الدم و غيره.
لم تجب عن سؤالي و بقت مبتسمة الى ان اجابني زوجها بنوع من الخجل. قال لي بالحرف الواحد ( هي منزعجة قليلا لانها كانت تخاف ان يكون الدم المنقول من رجل ..... و صمت لوهله ... و نظر لها فأومأت براسها و حينها قال .. من رجل اسود ( Nigro ).
كنت اظن انهما يمزحان و لكن كان الموضوع يبدو جديا الى حد ما. فقد كان زوجها يعايرها بان شعرها اصبح منكوشا ( curly) منذ ان استقبلت ذلك الدم. مع العلم ان حادثة نقل الدم كان قد مر عليها حوالي السنتين.
ثم لم أستطع ان ابقى صامتا بعد هذا الهراء فعقبت على شعرها و قولت ( منذ ان عرفتك سيدتى، و شعرك يبدو لي دائما منكوشا. الفرق الوحيد انه اصبح اكثر بياضا ) ضحكت ضحكة مصطنعة...و غادر الزوجان المكتب و عم الصمت.)
بالفعل هي قصة غريبة و توحي بقتامة النفس البشرية رغم آلاف السنين من التعلم و التحرر و التطور.
قولت لصديقي الذي كان حزينا لسماع هذه الهديان البشري قولت له اني لم يعجبني طريقة تفكيرهما النمطية و ان كان فيها نوع من المزاح . هما قد يكونا من افضل مرضاك. و قد يكونا اكثرهم احتراما و رقيا في التعامل و لكن يبدو ان التمييز العنصري شيء يصعب استاصاله و نزعه من قلوب الناس يا صديقي. حتى و ان استبدلت دمهم بدم رجل اراد ان يمنح الحياة لهم و يسعفهم بعد ان كانوا اقرب الى الموت- و كله بأذن الله .
-
مازن مهديولدت بقرية في ليبيا اهوى قراءة الكتب و اسعى ان اكتبها.