الرصيف الأخير - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الرصيف الأخير

رغد خميس

  نشر في 09 يوليوز 2016 .

فتحت جوالها يشير الآن إلى الساعة التاسعة صباحا, 20-7-2016 الموافق ليوم الأربعاء هذا يعني انقضاء يوم كامل بين عتبة الهنا والهناك

تنهدت وقالت: " لكن لا عيد اليوم"

نظرت من نافذة الحافلة وهزّت رأسها المثقل بالحكايات والأشعار علّها تستوعب دخولها ربما الأخير إلى هنا, ولتتأكد أن ما يحدث معها الآن ليس حلما أو كذبة ملغومة تمتد فيها, كذبة اعتاشت عليها, تأخذها إلى عوالم من فرح هش ومن ثم تقتنص الفرصة بكل هدوء لتفجرها وتسحبها إلى الشاطئ الأول.

كان الزجاج معتما وعليه من الغبار ما يكفي للتشكيك بكل ما تراه ولطرح أسئلة قد تبدو ساذجة للشابة التي تجلس إلى جانبها وفي حضنها طفل رضيع منشغل عن كل الخراب الذي يحيط به, نظرت إلى بطنها الذي ينتفخ يوما تلو يوم, بطنها الذي ظنه الجندي الذي يقف على حاجز إيريز متفجرا ما, بطوننا استثناء يرهب الكثير منهم خاصة عندما يتكور وينتفخ لا لشيء فقط لأنه إشارة على انفجار حرية ونضال وكفاح.

"متى ستنفجر يا صغيري حياة ونضالا؟" هذا ما قالته في سرها والجندية التي لم تبلغ الثامنة عشر من عمرها تتفحص بطنها بآلة الكترونية في غرفة معتمة مغلقة بأربعة جدران رمادية, صغيرها لا يهدأ, يبدو أنه مقبل على الحياة بكل شغف وشغب, أو لربما هو مدرك لكل ما يحدث على هذه البقعة الواقعة من الزمن لذلك فهو في حركة جنونية, أو بالتأكيد هو يعلم جيدا مدارات حياته السبعة المشبعة بالحرمان والمستقرة على الحقيقة اليتيمة.

لا يهمها إلا التفاصيل من كل شيء, التفاصيل تلك التي نغفل عنها ولا نوليها اهتمامنا ونضعها على رف لهشاشتها وتفاهتها بعض الشيء, نمر عنها يوميا ونغض الطرف أو ربما نتظاهر بالعمى وننكر وجودها ونضعها في قائمة اللاموجودات كي ننسى أو كي نتناسى علنا ننتصر على الفراغات التي تحدثها تلك التفاصيل فينا يوما تلو يوم, وما حياتنا إلا كومة من تفاصيل تنخر بنا وبأحلامنا, لأول مرة شعرت بأن للنافذة بعد وتفصيل آخر, تفصيل لم يسبق أن فكرت به قبل ذلك, النافذة الآن وصوت السائق العصبي سجن وحاجز آخر وعقبة اضافية.

حاولت أن تفتح النافذة التي تقف كحاجز أخير بينهما, لكن السائق الذي يتصبب عرقا بنظارته السميكة المعتمة والمغبّرة كالنافذة وبقبعته الحمراء الأشبه بخيمة كان لطيفا إلى حد الصراخ بها: " شوي شوي هسا بتخلعي الشباك يختي".

كل من في الحافلة مشبع بالاشتياق, لكل حكايته ووجعه الممتد فيه ومنفاه, كل سارح بعالم مشابه لعالم الآخر, فالعوالم و حتى الأحلام هنا عامة من فرط التكرار, جميعهم قادمون من الضفة الأخرى من الوطن يحملون غربة سنين عجاف و عمرا وصورا في ذاكرتهم لا تشبه الواقع الخراب, ونجية كانت من أولائك المبعدين الذين يتقنون الأمل حتى آخره, كانت تحاول أن تقنع نفسها بأنّ ما تراه على شاشة التلفاز مؤقت يزول بزوال المحطة او انتهاء نشرة الأخبار, كانت تتخيل المشهد, مشهد "أرض اليباب" هناك ثم تطرده فورا, وفي كل مرة كانت تحاول أن تنجو من صور الخراب التي تجتاح الواقع بإخراج ألبوم صورها وتصفح المكان الذي عرفته هناك والوقوف على كل جميل فيه, أو بالهروب إلى المحطة التي تبث الرسوم المتحركة.

تتذكر جيدا صوت المراسل الذي يقف كناج وحيد أمام كل المنازل التي ما عادت هنا, وبجانبه الجرافات الصفراء التي تزيح الركام وربما جثة منسية تحت الظلام, في هذه اللحظة وهي في الحافلة لا تسمع سوى صوت ارتطام قلبها ورنين الهاتف المتقطع واللااجابة.

هزّت رأسها كي تسقط كل الفكرة التي تجتاحها, فاهتزت معها النافذة وكل الحافلة فحياتها منذ البدايات معلقة على الممكن ولكنّ الواقع الآن مختلف , واقع حاصل و أقوى من الخيال المبتكر, ولا مجال للتشكيك في الشيء المؤكد. الاحتمالية موجودة في كل ما هو محتمل غير حاصل, لذلك نجدها تفتح ذراعيها وتتثاءب بلا خجل أمام خصمي لعبة شطرنج و نجدها تتسكع بلا رقيب أو حسيب أمام فريقين في ساحة معركة أو عند حاجز فالكل وقتها مرهون بوهم الاحتمال وبإمكانية الرجوع عن الهنا إلى هناك.

الآن هي هنا في حافلة ستوصلها إلى اللامكان بجانب نافذة, دخلت بكل ما اوتيت من شوق وغياب وخسارات إلى مكانها الأول بعد تيه طويل هناك, كان على يمين الطريق إشارة زرقاء عالقة ببرغي واحد مكتوب عليها بخط أبيض مغبّر "الخروج إلى ..." "Exit to… " وصوت " سقوط 74 شهيدا في منطقة الشجاعية صباح يوم الأحد الموافق 20-7-2014" وعبارة "عيد شهيد" تتوسط قناة الجزيرة, كان أربعة من هؤلاء الشهداء كل ما لديها هناك وسبعون غرباء.

...النافذة مشروعة الآن للخروج إلى الرصيف الأخير الذي "لن تجد الشيء عليه حيا كصورته في انتظارك".


  • 2

   نشر في 09 يوليوز 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا