المسجِّلة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المسجِّلة

  نشر في 14 غشت 2023 .

عرف هذا الجهاز أوج انتشاره في سبعينات القرن الماضي. وكان من علامات الرفاه الاجتماعي في قريتنا. لا يهاجر الواحد إلى ليبيا إلاّ ويعود بجهاز كاسيت من ماركة آيوا الشهيرة. أجهزة بأحجام مختلفة وقوة صوت متفاوتة. بعضها يقتصر على وظيفتي القراءة والتسجيل الصوتي على أشرطة الكاسيت. وبعضها يجمع بين الرّاديو والكاسيت. وهناك أجهزة تقرأ حتى الإسطوانات.

كان من الرائج أن يخرج الشاب من بيت الأسرة وهو يحمل على كتفه صندوقا بحجم الكنتولة وثقلها، ينتصب فوقه لاقط للمحطات الإذاعية، ليتجوّل في الشوارع معاكسا البنات وشعره الطويل منسدل أو منفوش وياقتا قميصه تتدليان على كتفيه كأذني فيل وبنطلونه يرفرف في الأسفل فوق حذاء أعلى من قبقاب الحمّام الخشبي. هذا من علامات الزمن الماضي الذي يغلّفه الحنين فينسينا مآسيه وجوعه وفقره حتى يغدو جميلا لذيذا.

أذكر أنّ عمّي غادر العمل بشركة فسفاط قفصة بعد الهول الذي خلفه هجوم الماء على الداموس حتى أغرق رفاقه الأربعة هناك. كان يمكن أن يهلك عمّي معهم لولا أنّه كان في إجازة زفافه. بلغنا الخبر عند الظهيرة وكان حفل الزفاف في أوجه. لمّا دخل عمّي المطبخ، زغردت عمّتي فتبعتها النسوة. ولكنّ عمّي ارتمى على أخته ووضع يده على فمها يخرسها. وصاح في النسوة أن يتوقّفن عمّا كنّ فيه ليعلمهنّ بالخبر. تحوّل العرس إلى ما يشبه المأتم. وأتممناه في صمت دون الصخب المعتاد. لم يستطع عمّي العودة إلى العمل في الداموس وطيف رفاقه يطارده، فهاجر إلى ليبيا ليرسل إلينا بعد فترة رسالة فيها صورة له وهو على حفارة النفط في صحراء سبها بجنوب ليبيا. جاءنا بالرسالة زميل له من نفس قريتنا كان قد هاجر قبل عمّي. وسلّمنا شريط كاسيت سجّل فيه عمّي سلاماته لكلّ الأقارب فردا فردا. أذكر كيف تحلّقنا حول ذلك الغريب ليشغّل الشريط. بدأ صوت عمّي متحشرجا وارتعش ثم داخله البكاء ثم تماسك وأطنب في السلام على أمّه ميّة (جدّتي) ومنها مرّ إلى السلام علينا جميعا بالاسم معطيا الأولوية للأكبر سنّا فينا. والغريب يبتسم لنا ويدعونا بيده إلى عدم التعليق والانصات ثم يترشّف من كأس الفانتا. أذكر كيف وصل التسجيل إلى موقع يصمت فيه عمّي، قبل أن يقول بصوت يتصنّع الجدّ والحياء: "وتوّا باش نوجّه كلامي لعمارة الدّار". عندها يوقف الغريب التسجيل ويدعونا إلى المغادرة عملا بتوصيات عمّي ويصطفيني من دون الحاضرين للبقاء مع زوجة عمّي حتى أتدخّل في صورة ما إذا تعطّب الجهاز. ثم استأذن ليقف في الخارج. ولكنّ زوجة عمّي ابتعدت بالجهاز وخفّتت الصوت لتسمع وحدها ولا تدعوني إلاّ لإرجاع الشريط إلى الوراء لتعيد السماع مرارا وتكرارا.

في الأثناء نشبت خصومة حادة في الخارج بين عمّتي وابنة خالتها التي هي أخت زوجة عمّي، لأنّ عمّي لم يذكرها بالاسم في قائمة من سلّم عليهم. وأبي غاضب ومستاء من كشف حالنا أمام الغريب، يضرب كفا بكف ويردّد: "هذا الشيء غريب علينا... ما كنّا في حاجة إلى مثل هذا."

استأذن الغريب في المغادرة وأكّد أنّه سيعود ليسجّل سلاماتنا إلى عمّي بأصواتنا على شريط كاسيت، وذلك تنفيذا لطلب عمّي. ثمّ سلّم كيسا فيه هدايا إلى جدّتي ميّة. فتح الكيس على الفور وكان فيه بخور ولوبان وعطور وحلوى ومكسّرات وأقمشة ومناديل رأس مزهرة وباروكة شعر أشقر كانت عروسه قد ألحّت في طلبها.

يوم جاء الغريب لتسجيل أصواتنا، استهلّت جدّتي جوقة السلامات بالدعاء والرضاء على ابنها وتاج رأسها وطلبت منه أن لا يعود بدون جهاز تسجيل ولامته على عدم ذكر ابنة أختها بالاسم في قائمة من سلّم عليهم. تلتها عمّتي لتؤكّد له أنّه لم يقصّر مع أحد ولم يخطئ في شيء وختمت سلامها بزغرودة قالت له أنّها مكتومة في حلقها من أيّام عرسه. وانفجرت بالبكاء بعد تسجيل كلمتها حتى داخت ورشّت عليها ميّة الماء. لمّا جاء دور زوجة عمّي لتسجيل كلمتها بقيت معها فقط كمساعد تقني للتدخّل عند اللزوم. لكنّها دسّت في يدي حلقوما وابتعدت بالجهاز. وأهديت لعمّي قصيدة من كلماتي هي الثانية التي كتبتها في حياتي بعد قصيدة أولى ترشّحت بها للمشاركة في عكاضيات عيد ميلاد بورقيبة لكنّها رفضت بحمد الله فنجوت بذلك من حياة مدّاح.

سلّمتني زوجة عمّي رسالة دسّت فيها صورة شمسية لها بالباروكة الشقراء التي أرسلها عمي وكتبت على ظهرها هذه هي الصورة التي طلبتها. ولم يكن فيها لا قلب ولا تعبير عن حب. بدت لي زوجة عمي دميمة جدا بتلك الباروكة التي تشبه فروة قط أزعر مرقّط ولم يكن شكلها ولا لونها يناسبان استدارة الوجه النحيف لزوجة عمّي.

ثبّت الغريب الكنتولة على كتفه وشغّل شريط شفيڨة ومتولّي بأعلى صوت ثم غاب في أزقّة القرية وهو يتهادى بخيلاء وصدى الربابة والحكاية يتردّد في الأرجاء. كنت في قرارة نفسي حانقا على ذلك الغريب الذي بدا لي يظهر عكس ما يضمر. فهو يتظاهر بخدمتنا وبالصبر علينا في حين هو يستبيح حياتنا ويتلذّذ بالتلصّص علينا. وكنت واثقا أنّه سمع كلام عمي لزوجته وسيسمع كلامها لعمّي.

عاد عمّي من ليبيا في موجة ترحيل قسري قام بها القذافي ضد العمّال التونسيين في واحدة من غضباته الكثيرة على الهادي نويرة. لم يأت بأغراض كثيرة ولكنّه لم يكن يستطيع المجازفة بتخييب طلب ميّة...

من تلك المسجّلة التي جاء بها عمّي، حفظت سيرة الحبّ وحكم علينا الهوى لأمّ كلثوم التي كانت تتحدّث بأمانة لا توصف عن مشاعر حبّي لحبيبة السالمي التي كانت منصرفة عنّي لمنير الرحيلي الذي كان منشغلا عنها بيمينة الصغيّر التي كانت منشغلة عنه بمحمّد الذيبي الذي كان منشغلا عنها بعاهرة الماخور نجاة...



   نشر في 14 غشت 2023 .

التعليقات

Uma's world منذ 8 شهر
😂😂😂😂
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا