إن كل معاني العزاء والمواساة قد يجدها المرء من أولئك الذين لا يعرفون حجم مانحن فيه، أولئك الذين لا يدركون كم يعني لنا أن يوجدوا في عالمنا...وجودهم يمنحنا نوعًا جديدًا من الحياة في أرق صورها وجهلهم بذلك يقوي معنى تلك الحياة فينا ...لذلك أكتب لك يا صغير، لأنك الوحيد الذي لم يودعني اليوم..الوحيد الذي لم يتوقع أن يكون ذاك لقاؤنا الأخير، تحدثت بتلقائية خالية من معاني الكلمات الأخيرة حتى أنك طلبت مني أن أرسم لك أرنبًا وأقدمه لك في زيارة قادمة ..أنت الوحيد الذي تحدث عن زيارة قادمة والكلُ يعد هذه الزيارة هي آخر العهد، أن ممتنٌ لك يا بُني ولما أسديته لي من جميل دونما قصد أو تكلف منك ..
أُمك تحاول أن تمسك دمعها فيغلبها تارة وتغلبه تارة أخرى، كلماتها تنبعث من أعماق روحها المنهكة حتى إذا ما وصلت الحروف لشفتيها أبى عقلها أن يطلقها فتتناثر الحروف في نظراتها وأنفاسها..غريبة هي كلماتنا، تتخلى عنا حين نكون في أمس الحاجة إليها..تتبخر ثم تظهر في صورة فعل لا إرادي يبوح بكل ما اجتهدنا في سبيل إخفائه .. للمرة الأولى منذ اعتقالي أراها خائفة مشفقة على حالي وحالها، لكننها لم تتكلم كثيرًا..صمتها يزيد إدراكي لثقل ما تشعربه، وكم هي عاجزة عن وصفه وتحديده وإخراجه في صورة منتظمة، وكيف يمكن لألمها أن يكون منتظمًا وهي التي علمتها الحياة – أول ماعلمتها – أن زوال الأمور أثبت وأقرب من دوامها، أم كيف يتوقع ألمها منها أن تبوح به وهي التي عاهدتني على أن تتماسك ما استطاعت وتبعث في نفسي الصبر والثبات ما استطاعت، وأُشهد الله أنها استطاعت .
وفي مقابل صمتها، كان حديثك متواصلًا ياصغير ..عرضت علي في سخاء أن أنتقل للعيش معكم حيث أن منزلي المزدحم بالغرباء والضباط لا يعجبك، كما أنك تختنق برائحة الدخان التي تملأوه وهو بعيد عنكم، تسافرون طويًلا حتى تصلوا إليه .. لترونني لدقائق فقط، كلها أسباب وجَدتَها مناسبة لتقنعني بأن أنتقل إلى منزلكم الهادئ بعيدًا عن كل هذا الإزددحام حيث يمكنك أن تراني مدة أطول
حسنًا، أقدر عرضك الرائع يا بُني، دعني أبوح لك بسر صغير.. أنا أيضًا لا يروقني هذا المكان، قضيتُ أربع أعوام فيه لكنه لم يعجبني قط، لم أشعر بالألفة فيه إلا ما ندر، غريبٌ أنا فيه مشتاقٌ أنا لنسمات الهواء.. لرائحة الصباح .. وضوء الشمس بلا حاجز .. حاولتُ أن أخبرك بكل هذا، أن الزنزانة ليست منزلي وأن غرفة الزيارة ليست صالوني الذي أستقبل فيه ضيوفي، وأنكم لستم ضيوفي بل عائلتي الصغيرة التي ما إن كونتها حتى أصبحت الجزء الغائب فيها، وأن منزلي هو الأصل وزنزانتي إستثناء ..لكن كيف لي أن أُقنعك بصفة الإستثناء في استثنائي الدائم من عالمك، كيف أقول أني في الأساس ملازمٌ لك والأساس لديك منذ عرفتني هو الزيارات التي تراني فيها مرتين في الشهر.. في السجن تضيع المفردات، تتداخل القواعد في استثناءاتها، ماعدتُ أعرف: هل كان اعتقالي استثناء لحريتي أم أن حريتي كانت استثناء لاعتقالي !
ولدي العزيز .. هأنتذا تتم عامك الخامس دون أن أعرفك معرفة الأب بابنه ودون أن تعرفني معرفة الإبن بأبيه، كنت تحبو عندما فارقتك ..إستعنت بمخيلتي لأعرفك أكثر، تخيلت أول مرة مشيت فيها ..كيف كنت تُخطئ في نطق الحروف، يضحك من حولك كلما نطقت.. تنظر لهم في دهشة ثم تضحك دون أن تعرف السبب، كيف تعلمت أن تمسك القلم، هل تستطيع أن تكتب اسمك بطريقة صحيحة، ماهي ألعابك المفضلة، طعامك المفضل ..الوقت هنا يمر ببطء قاتل، هذا البطء يجعلني أكثر تعلقًا بالتفاصيل وميلًا لها وبالطبع لا يكفي وقت الزيارة لأسأل عن كل هذا ..ومنذ علمت أن أوراق قضيتي أُحيلت للمفتي أصبحت أتخيلك في المستقبل، تارة أراك مراهقًا غاضبًا يدفعك حماسك إلى ارتكاب الحماقات، وتارة أخرى أراك شابًا رزينًا يصلي في الصفوف الأولى، وطبيبًا أحيانًا ..مهندسًا في أحيان أخرى، أحاول أن أسبق الزمن لأصل إليك دون أن أصل ! .. الأبوة ..تلك العلاقة الفريدة بين شخصين أحدهما مربٍ وأستاذ وصديق ودود والآخر تلميذٌ وطفل مهما كبر وهو أيضًا بالنسبة للأول وطن صغير ..الأول يأخذ بيد الآخر إلى الحياة والولد بالنسبة لأبيه صورة لطيفة للحياة.
أحيانًا أتخيل صورتي في ذهنك، كيف تراني ؟ هل أنا في خيالك صورة مشوشة تحمل مسمى (أبي ) دون أن تعرف عن هذا الأب شيئًا سوى قليل من أخباره التي يتناقلونه حولك والمتعلقه غالبًا بمفرداتٍ من قبيل : قضية، محكمة، إعتقال، سفر، زيارة و ..وإعدام، أم أنني صورة أكثر وضوحًا من ذلك، لا أدري! وعزائي في ذلك هي أنك يومًا ما ستقرأ هذه الكلمات فتعرف عن صورتك في ذهني، يومًا ما ستقرأ ..ستدرك كيف سارت الأمور حتى وصلت إلى هنا، ستعرف كيف يمكن لبشر أن يؤمن بفكرة مجردة يراها الجميع خيالاً لا علاقة له بالواقع ويراها هو واقعًا لا مفرمنه، حتى إذا تلاقى الجمعان وظن أصحاب موسى أنهم مدركون، ظهر فيهم من يقول: كلا إن معي ربي سهدين ..يفعلها قبل أن يقولها.
هأنتذا تتم عامك الخامس والأطفال في هذا العمر تكثُر أسئلتهم ..يسألون عن كل شئ، لماذا يتحرك القمر معنا؟ هل يتحرك أم نحن من نتحرك ؟ لماذا لون الشمس أصفر ؟ لماذا نسمي القلم قلمًا ؟ وكيف تتحرك السيارات ؟ ومتى ينطفئ مصباح الثلاجة ؟ .. لطالما وددتُ أن أشاركك تساؤلك، أن أضغط بإبهامي على الخط الواصل بين عدستي نضارتي، ثم أشرع في تأليف إجابات فارغة لإقناعك ..تعجب بمنطقي ..تقتنع بكلامي ..ثم تظن أن والدك هو من أكثر الناس علمًا بكل شئ..تكبرأكثر ، تعرف الإجابات العلمية الدقيقة، فأحمد الله مرتين، مرة لأنك عرفت والأخرى لأنك نسيت إجاباتي .
عُمر .. إن الرجل ليختار الطريقة التي عليها يموت ليحدد الطريق التي عليه يحيا ويسير، ولو أننا أجلنا إختيارنا لأخذتنا الدروب وتشعبت بنا الطرق ..كلٌ يؤدي بنا لنهاية لا نعرفها لكننا في كل الأحوال علينا أن نسير ونكمل ..قد تشعر بالحيرة أحيانًا .. بالغربة أيضًا، لا عليك، ليست الغربة سيئة في كل الحالات، ربما كانت مؤشرًا إيجابيًا لتراجع مامضى وماأنت مقبل عليه.
أما عن رسمة الأرنب تلك، لا تقلق ..ستجدها جاهزة في زيارتنا القادمة إن كان لنا زيارة قادمة .
قد أُ رمى خلف الجدران
وتحنُ لحبي وحناني
فانظر في قلبك ستراني
لن يقوى القيدُ على الفكر.
-
Mariam Mostafaنحن نكتب لننتصر ..لأننا أقوى من كل ما نستطيع التعبير عنه فالحروف هي انتصاراتنا المتواضعه على ضعفنا قبل كل شئ
التعليقات
لم يبهرنى أسلوب أكثر مما فعلتى ...فليباركك الله ويستخدمك فيما يحب ويرضى
بل أنت مبدعة
أشعر وأنا أقرأ كلماتك أنك تحملين
بين جوانحك قلبا ينبض بالامل
والخير للجميع
حقا إن كلماتك واعدة بمستقبل مشرق لأديبة رفيعة الاداء