بعدما أنهيت دراستي الجامعية وحصلت على منحة دراسية قصيرة كللتْ سنين تعبي ودأبي في الدراسة، تخرجت أخيراً وطويت صفحة التحصيل العلمي إلى أجل بعيد وأقبلت على نوع جديد من الحياة لم أكن أعلمه حتى ذلك الوقت. الحياة العملية وما تحويه من مصاعب لم تكن ضمن الحسبان.
عندما تنهي الفتاة حياتها الجامعية (وفي بعض الأحيان قبل أن تنهيها) فإن الأنظار تتجه إليها انتظاراً منها للاقتران بعريس الغفلة أو فارس الأحلام. لم يكن حقيقة يعنيني الأمر شيئاً فقد حمل قلبي من اليقين بقضاء الله وقدره ما دفعني للتركيز كلياً على عملي وأنشطتي التطوعية حتى أنني رفضت كل العروض التي جاءتني بالارتباط حينها إذ أن قلبي لم يكن قد طرق بابه بعد ولم يذق معنى كلمة الحب..
وككل القصص التي نسمعها دائماً والتي يستطرد كتابها بكلمات مثل (وأخيراً) أو (وبعد طول انتظار) جاء شاب ما ليطرق باب القلب كما لم يفعل أحدهم قبله.
وكنت حينها لم أبلغ بعد منتصف العشرينات ولازال قلبي يدور في فلك الأحلام الأنثوية الوردية ولشدة ثقتي بالله قررت أن أعبر عن تلك الثقة بثقتي بمن ظننت أن الله أرسله لي ولم يسعفني عقلي لأن أتوقف يوماً وأفكر: هل حقاً هذا هو نصيبي؟ لقد كانت ثقتي العمياء بأنه نصيبي أكثر صلابة من كل المعطيات حولي والتي تؤكد لي عكس ذلك. إلا أنه يا أخوان الحب الأعمى أضف عليه أنه الحب الأول والذي يعمي بصائرنا قبل بصيرتنا ويوهمنا بظنون مضحكة تفيد بأننا على صواب وأن كل كلام من حولنا خاطئ.
تقول أحد الظنون التي أقنعت نفسي بها بأن نظرتي للحب ومعناه خاطئة! نعم! إن الحب في الحقيقة ليس بالعاطفة الحارة التي تلهب القلب وتدفع المحب للاهتمام بمحبوبه. كلا! فإن البرود في المشاعر قد يكون نوعاً من الحب! وأنه علي الاقتناع بأن برود مشاعر ذلك الخطيب ما هي إلا تعبير "مختلف" عن الحب.
أحد الظنون الثانية تزعم بأن الشهامة لا تعني أن يخاف المحب على محبوبته حينما تضطر لمواجهة أناس سيئين أو السفر وحدها بل قد تكون شهامته مختبئة وراء صمته الطويل وابتعاده عنها في أشد لحظات حاجتها إليه. نعم! فالتعبير عن الشهامة أمر نسبي!
القلب يا سادة عندما يعشق فإنه يصور لنا السواد على أنه نوع جديد من البياض. ويقنعنا بأن حقوقنا الطبيعية أمام شريك حياتنا ماهي إلا رفاهية أملتها علينا الأفلام الغبية! أنا لا أنكر بالطبع التأثير السلبي للأفلام والمسلسلات في رسم صور خداعة للحب في عقولنا إلا أن الحب والاهتمام لم يكن يوماً رفاهية في أية علاقة عاطفية.
يأتي أحد الظنون الخاطئة بثقة إلي ليقول لي بأنني أنا المخطئة في كل شاردة وواردة في العلاقة وأن عدم اعتذاري قد يسيء إلى علاقتي الثمينة المقدسة! بل إن نرجسية الخطيب هي في الحقيقية قمة العطاء ولكنني لا أراها بالشكل الصحيح!
لم تسلم الكثير من الأخلاق التي يتوجب على الشاب أن يتحلى بها كالكرم والرجولة أيضاً من تخميناتي السلبية التي أحطتُ -دون أن أدري- بها عقلي. فصورت قلة النضج على أنه فورة مؤقتة والبخل على أنه عسرة مادية مؤقتة وقلة الاهتمام على انه انشغال مؤقت وقلة الحب على أنه بعد مؤقت.. خنقت نفسي بالتبريرات حتى شاءت الأقدار أخيراً بأن تبعد ذلك الشخص عني دون أن تسمح لي الفرصة بوضع التبريرات. فقد كانت الاقدار لطيفة معي لدرجة أنها جعلته يبتعد بفعل أقبح من أن أستطيع تبريره، غلبني القدر وفاق بقدرته قدرتي على خلق التبريرات وأبعده عني بطريقة لن يستطيع فيها قلبي الذي امتهن التبرير إيجاد التبرير المناسب.
حينما يعاكس القدر امانينا، يصعب على القلب تقبل الحقيقة فيحقد بعضنا على قدره ويعتبرها ظلماً. وهذه اللحظات ماهي في الحقيقية إلا اختباراً لليقين وتقبل القدر خيره وشره لنجد أن إيماننا الغيبي ماهو إلا حبرٌ على الورق وأنه لن يصقل إلا في مواجهة التحديات.
مضت أشهر عديدة وأنا أحاول فهم السبب الماورائي لما حصل معي. فقد كان أكبر أحزاني هي ليست خسارة (ما كنت أظنه حينها خسارة) ذلك الخطيب. بل هي لماذا وقعت فيما وقعت فيه؟
إن الإنسان دائما يبحث عن شماعة يلقي اللوم عليها وكأنه ملاك معصوم أو كأن أعماله الحسنة على قلّتها في الحقيقة إلا أنها ستنقذه من مصائب الحياة وتحميه من الأحزان ناسياً بأن أكثر البشر ابتلاءاً هم أحبهم إلى الخالق، الأنبياء.
بعد أن وقعت فيما وقعت فيه قررت أن أعيد النظر في اختياراتي وتقييمي لذاتي فقمت ببعض الخطوات كان أحدها كتابة قائمة بما أتمنى وجوده فيمن (إن ارتبطت) سأرتبط فيه وقائمة أخرى حول ما سأتجنبه فيمن قد ارتبط فيه. وألقيت مع انتهائي من كتابة هذه القائمة مرة أخرى بقلبي في يد مقلّبه.
عندما شرعت بكتابة قائمة الصفات التي سأتجنبها في الشريك المستقبلي وجدتني أكتب كل الصفات التي كانت موجودة في ذلك الخطيب وطالت عندها القائمة حتى انتابتني رغبة بالضحك إذ أن صفاته حقيقة كانت أسوأ من أن أقدر على تحملها لشهر واحد ولكنني لم اعيها إلا بعد الانفصال. !
بدأت بعدها بكتابة قائمة أخرى بصفات أود أن يتحلى بها الشريك المستقبلي وسعيت أن أفصّل في هذه القائمة! إذ أنني كنت قد قرأت سابقاً أن الكون (كما يحب جماعة الكارما وقانون الجذب أن يسموا الله تعالى) سيرسل لك تماماً ما ترغب فيه وأنك كلما ازدت دقة وتفصيلاً في طلبك كلما جاءك كما لو انك قد اخترته بنفسك. وهذا بالمناسبة ما يحثنا عليه الله سبحانه وتعالى حينما يطلب منا تحديد الدعاء
إذاً فقد كتبت قائمة ليست أقل طولاً من صاحبتها (أو لنقل عدوتها) موضحة فيها الصفات التي أريدها في الشريك المستقبلي وأذكر انني أغمضت عيني حينها وأطلقت العنان لمخيلتي ومنطقي معاً فبدأت بعمر الشريك إلى طريقة تفكيره إلى أسلوب الحياة إلى كيفية التعبير عن المشاعر. قررت أخيراً أني أستحق حباً حقيقياً يداعب أحلامي الطفولية التي قتلتها سابقاً واعترفت أخيراً بأني لم أعط نفسي حقها سابقاً وبأني لطالما ركزت في حياتي على غيري فمِن حب أعمى لذلك الشخص إلى عمل تطوعي سلبني قوتي إلى تعاطف مطلق مع من هم بحاجة لتعاطف ناسية نفسي وحقها عليّ كل سنين عمري الفائتة مفرغة محتوى قلبي -العاطفي أصلاً- من عاطفته لغيري دون أن أترك لنفسي قليلاً من العطف والحب! فتقدمت بالاعتذار لنفسي أولاً وأمضيت الأشهر التالية بتعلم حب الذات وإعادة تقييمها وإيلائها المزيد من الوقت ولا أخفيكم أن للعزوبية مزايا رائعة إذ أنها تتيح لنا التفكير في أنفسنا واكتشافها والانكباب على الهوايات وتعلم ماهو جديد وقد أمضيت وقتاً جميلاً ولا زلت أمضيه مع نفسي بعدما قررت أخيراً أن أعطيها الأولوية في سلم أولوياتي. قررت إضافة إلى إعادة تقييمي لذاتي، أن أعيد تقييمي للعلاقات الإنسانية حولي وأن أعطي المحيطين بي قيمهم الحقيقية فهذا الذي رفعت قيمته عالياً وذاك الذي أنزلتها.
ومع الوقت أدركت أنني امتلك صاحبة طموحة ولطيفة ومسلية جداً! إنها أنا! لم أكن حتى ذلك الوقت أعي من أنا حقيقة وقررت أخيراً أن أعطي نصيباً من عواطفي المتأججة لمحبة ذاتي مدركة أنني وفي أشد حاجتي لصحبة لن أجد أقرب منها إليّ وأنني سأضطر لمواجهة مشاكل حياتي وحدي تماماً وأنه علي أن أتحلى بالقوة لأجل ذلك.
لقد كان ابتعاد ذلك الخطيب عني نعمة لم أدرك عند حدوثها قيمتها ولكن هل أنهي قصتي هنا بنهاية مفتوحة؟ كلا! بل سأشارككم ما حدث بعد ذلك علَّ قصتي قد تكون أملا لأحداهن أو لأحدهم في وقت قد يحتاج لسماع قصة شبيهة.
تعاقبت الأيام وأنا منشغلة في عملي واجتماعاتي بأصدقائي وسعيي للحصول على منحة دراسية أملاً باستكمال تحصيلي العلمي ونسيت مع الوقت القائمتين اللتين كتبتهما سابقاً إلى أن جمعتني الأيام بشاب أحسست أنه يستحق أن أعطيه فرصة للتقرب على غيار من جمعتني الأيام بهم طيلة تلك الشهور الطويلة. لقد كان دافعي هو نوع من الارتياح لا أكثر لشخص يبدو أنه مبدئياً إنسان ظريف! بدايات غامضة لقصة لم تكن قد اتضحت ملامحها بعد. إلا أنه لم يكن أمامي أي سبب يمنعني من أن أسبر أعماق ذلك الارتياح الغامض لأفهم كنهه فكان ذلك الارتياح يزداد يوماً بعد يوم وكأن أحدهم قد قدم لك أخيراً كرسياً لتجلس عليه بعد شهور طويلة من الوقوف!
بدأت مع هذا الشخص من جديد إعادة تعريفي للحب وللاهتمام والالتزام الحقيقي ووجدت شيئاً فشيئاً أن تعاريفي السابقة حينما كنت بعد في أوائل العشرينات لم تكن خاطئة ولكن تجربتي القاسية قد شوهتها أمامي! ووجدت أن أحلامي التي أقنعت نفسي يوماً بأنها أكبر من أن أستحقها وجدتها هنالك تنتظرني!.
إن كل التضحيات التي قدمتها سابقاً في تجربتي الفاشلة وما أكثر تلك التضحيات التي ظننت فيما بعد أنها ماتت وضاعت إلا أن الله في الحقيقية كان دون علمي يخبئها إلي في جعبته ليهمس إلي لاحقاً بأنه لم ينس دعواتي وأن ثقتي به هي حتماً في محلها! ورغم تقصيري الطويل إلا أن الله لم يقصر معي!
وبعد غمرة من الإدراكات اللطيفة التي أدركتها تذكرت هذا الصباح القائمة! بحثت عنها بين دفاتري وأعدت قراءتها مجدداً ابتداءاً من الصفات التي لا أرغب بوجودها انتقالاً إلى الصفات التي أتمناها.. ويالغرابة ما اكتشفت! لقد اكتشتفت أنني حينما أغمضت عيني مرة وابتسمت أثناء كتابتي لتلك القائمة فقد كنت أصف هذا الإنسان! وكأنني رسمته حقاً وأعطيت الرسمة إلى الله فأعادها إلى بهيئته.!
لم أكتب كنوزاً وقصوراً أسطورية ولم أرسم صورة لفارس أحلام وهمي! بل لإنسان عادي يزينه إيمانه وطموحه ويتصف بالرجولة والكرم و.. مهلاً لن أشارك بقية الصفات وسأحتفظ بها لنفسي وأترك لكم العبرة وأترك لله حسن التدبير راضية بقضاءه وكيفية تسييره للأحداث مكتفية بإيماني المتزايد بلطف الخالق شاكرة إياه على دروس الحياة قاسيها ولينها.
التعليقات
رغد لقد حباك الله بفرصة الاختيار ....الكثير لا يملك الفرصة.ما حدث اولا هو خير لك لانه جعلك اكثر وعيا وكانت النتيجة انك وجدت الاختيار الصحيح.
أتمنى لك السعادة على الدوام .