رحيل الماضي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رحيل الماضي

  نشر في 27 نونبر 2022  وآخر تعديل بتاريخ 09 ديسمبر 2022 .

رحيل الماضي

   وبينما كنتُ أعدو باتجاه الشمس، التي طفقت تميد غاربة نحو البحر. فهمَّت تلملم ما بقي من نسيج خيوطها الوردية الملقاة كوشاح شاحب فوق جسد الماء البارد. ثم خلّفت وراءها أشباحاً سود، راحت تلاطم الأمواج الهائجة لتلقيها جثثاً ممددة على رمال الشواطئ.

    ففي تلك الوهلة الرهيبة، المترنحة بين تململ الضوء وولوج الظلام. تلفّت وبي شغف لأرى ماضي الأمس، فأفتش في الذكريات الغابرة عن قبس أو عن ظلمة، عن فرح أو عن كآبة. فرحتُ أحدق في ما خبا وما اختفى فكل ما كان قد توارى عني مثلما تتوارى الشمس وتغيب، بعد أن تدلي من نول أشعتها خيوطاً ضئيلة، تحيك بها صفحة الماء، فتزخرفها بصور الماضي الآفل، فأتأمل الأمواج التي تعلو لتداعب زرقة السماء، ثم ترتد فتهبط غاضبة نحو الشاطئ فتتقهقر وتندثر منكفأة نحو الأعماق  المتجلدة.

تغرب الشمس أخذة معها الأحلام والأمال، ماضية غير أسفة لزوال الضوء والنور. فالربيع الذي تزين بالأمل والفرح، والفَراش الذي طار فوق الورود والزهور وتغاريد البلابل والعنادل كلها تلحّفت ثوب الأمس، ورحلت برحيل الشمس، واختبأت وراء الأكمام والجدران.

                 ************

    الليل يندرج في قريتي الناعسة، فيغطيها بوشاحه الأسود القاتم. ومن ثم يبتلع البيوت كوحش جائع، فيعم الرعب والهلع. أما الأشجار فواجمة تصارع الريح الثائرة، فمرة منتصرة ومرة أخرى خاسرة متكسرة. أما عينا السماء الزرقاوتان فهما ترمقان الحياة بحزن وألم ثم تغفوان في نوم عميق.

وأنا الذي كنت أشاهد كل هذه المشاهد، فكنت أسأل عن ذلك الماضي الذي انحدر متنائياً وقد غار عميقاً في الظلام، وأسقط كل ما في يده في العدم المفقود. مثل كرة بيضاء ضخمة تدحرجت بقوة في المنحدر  فتحولت من كتله صلبة إلى فتات هش، ومن ثم بعد ذلك ذابت وتلاشت. وقد كانت باردة جداً كالجليد، وكانت في العراء ليست بيضاء بالكامل وليست سوداء، إنما كانت أشبه بلوحة من الغيوم معلقة في فضاء فارغ يحركها الريح ويصفر بها مجلجلاً هنيهة، وهنيهة أخرى هازئاً منها، ومرة ضاحكاً مستخفاً بها. أما الظلام فيسدل ستائره الداكنة ويغطي بجسده الدامس القمم والأكام، فيخطو كقطيع غاضب ثائر يزرع الحلكة والدجى بردائه الواسع الفضفاض. كان يحجب كل شيء يرِد في طريقه حتى الأشجار المتعالية والشامخة والسهول الراضخة والمستلقية، بين تلة وهضبة غير أن أصحاب الليل لا يأبهون له كالبوم والغربان التي تحدق بعيونها الصفراء إلى الأشياء المحتجبة، فترى ما لا نراه نحن بعيونها الثاقبة.

    كنت أرمق ذلك الماضي، فأتفحص صفحاته وكلماته، ثم أحركه برمته لأعيده إلى الوجود لينبض أمامي فألمسه تارة وطوراً ألاعبه ومن ثم أبعثره على فرش الفصول، فأرى في ربيعه الأزهار القشيبة وفي صيفه الهدوء والسكون، وفي الخريف ذبوله وكآبته، أما في شتاءه فأرى المطر والثلج والعواصف فأدج في حدائقه وأقبع تحت ظله لكن الماضي مضى بكله مهرولاً حاملاً معه كل الأشياء الخفيفة منها والثقيلة، ومن ثم نوى واضمحل وغار فى كهوف لا نفقه مكاناً لها، ولا ندرك ما تخفيه أبدا من أسرار.

أما ظلاله فما زالت تنسل وتتوسد الأمكنة، لكنها لا تلمس ولا تتجسد هي خيالات أشباح تهب كما العواصف حين تشتد وتصفر فتهز الغصون اللينة، وتسقط الأوراق اليائسة هي رياح توقظ الهاجع من غفوته فيهرع كالمجنون لاحقاً ظله

المحتجب خلف ستائر الدجى، وفي النهار تجعله سائراً معها نحو غروب الشمس متخلياً عن أيامه التي تزرو وراءه، فتغدو كشبح له أصابع طويلة تحاول الإمساك به فلا تقتدر، ويبتغي العودة إليها لكن الريح قوية جداً، تحمل الأجساد بقوة وعزم وتقلها إلى ما وراء الغروب هي أرياح صافرة ،وهائجة، وعلى الكل أن يعتلي قطارها ويغادر معها في رحلة غامضة، ليس عليه أن يسأل أو يتسائل بل أن يرضخ ويجري كما الغمام لا يدرك مصيراً.

كنت أتأمل في ذلك الماضي في ألوانه الباهتة حيناً، والقوية حيناً آخر. فأتغلغل في تفاصيله من الشقوق الصغيرة والضيقة جداً، فأسمع مرة عويله ومرة أخرى أنصت إلى أنغامه وموسيقاه، ومرة أراه شبحاً يمتطي تلة ويهوي في عمق، ثم يستوي في السهل ومرة أجثو في أحضانه ألاعبه كما الطفل يعبث بالأشياء فرحاً ومغتبطاً، دون أن يقطن ما يفعل أو ما يريد وهكذا أبقى أفتش في صفحاته وكتبه وأبحث في طلله عن بعض أثر وعن بعض حكاية عن قصة وعن حقيقة كي أمسكها بيدي وأجعلها تنبض بالحياة، فتتنفس وتمشي بجانبي لا مثل ظلي بل مثلي أنا، فتضحك لي كما أضحك لها، وتشاركني الحياة بجسد وليس بظلها الرمادي الذي يسود ومن ثم يأفل كما الشمس الهاجرة. فالماضي لن يتجسد ولن يستنير بأي نور وأي ضوء هو يطل من خلف الغمام شبحاً ومن ثم يختفي مثلها سراباً فيتلاشى ويغيب، ويتوارى هالكاً بعدما كان حياً يجري تحت أشعة الشمس المشعشعة بالأنوار والأضواء.

في تلك البرهة التي كنت أحسبها جيلاً بأكمله، نزعت مني أفكاري ورميت كل ماضي الصور وأشباحه في بحر الظلمات، ومن ثم أكملت الطريق.

وفي ذلك الليل العميق، وفي الدجنة القاتمة كنت أنا من ورق أسكن في صفحات الذكرى... وهم يبحثون عني. ولكني كنت أبداً لا شيء.

         للكاتب عبدو بليبل


  • 1

   نشر في 27 نونبر 2022  وآخر تعديل بتاريخ 09 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا