الرحلة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الرحلة

كتابة: ياسين بن يرماق

  نشر في 15 يناير 2017 .

رأيت ذات يوم سيارة للنقل الخاص تمر في الشارع في ساعة متاخرة من الليل. استطعت ان ارى

من خلال زجاج السيارة ان من يركبها هم شبان وشابات يافعون يرقصون على انغام الموسيقى الصاخبة.

فسالت صديقا كان برفقتي: ماهذا؟ هل ترى ما اراه؟ فاجابني ضاحكا: نعم، لابد انهم ذاهبون في رحلة.

لقد استفزني الامر كثيرا. فما علاقة الذهاب الى رحلة بالموسيقى والرقص والمجون والاختلاط اللامبرر؟

اين أولياء أمور هؤلاء الشبان؟ ماذا عن البنات؟ كيف يرضى الإباء ان ينام فلذات اكبادهم خارج البيت

دون ان يعرفوا تفاصيل ماهم مقدمون على فعله؟

 

 لكي اعرف الإجابات عن هذه الأسئلة، قررت خوض التجربة. وذهبت في احدى الرحلات التي كانت

وجهتها نحو مدينة افران. اخبروني اننا سنجتمع في يوم كذا في منتصف الليل. وفي الموعد المحدد

وصلت الى مكان وقوف سيارة النقل الخاص التي ستقلنا، وهو المكان الذي سيجتمع فيه الركاب.

قابلني على باب السيارة شاب تحدث معي بأسلوب سوقي، محاولا ان يبدو شخصا ودودا على طريقته.

ومان صعدت، رايت منظرا ارعبني.. فتيات اعمارهن بين السابعة عشر الى العشرين سنة. احداهن

تخلع ما قد تسميه "حجابا" عن راسها، وأخرى مرتمية في حضن عشيقها، والبقية يرقصون ويتمايلون

على انغام الموسيقى التي سببت لي صداعا فيما بعد. اخذت لنفسي مقعدا في الخلف. نزعت حقيبتي

ووضعتها الى جانبي. وبينما انا مازلت مذهولا واحاول تقبل ما اراه من مجون، واذا بضحكة عالية

انطلقت من جانبي، فالتفت لأرى شابين احدهما يضحك، والأخر يلف سيجارة حشيش. وبعد ان انتهى،

نزلا معا ليدخنا ويعدلا مزاجهما.

 في المقعدين امامي، كان العشيقان يأخذان راحتهما تماما، وبعد وصلة طويلة من القبلات، بدءا

يتحدثان، ولا اخفي عليكم، قصدت التصنت على حديثهما، وقد اختلطت مشاعري بين الملل تارة والضحك

تارة أخرى، من حديث الحب والغزل الذي دار بينهما. ولكني بعد ذلك سمعت شيئا صعقني. سمعتها تقول

له وهي تحاول ان تبدو كفتاة مضحية: < هل تعلم يا حبيبي، من اجلك قلت لوالداي اني سأمضي هذين

اليومين مع صديقتي. وهي أيضا قالت لوالديها انها ستمضي هذين اليومين معي. وبذلك استطعنا المجيء

معا>٠ أي شيطان هذا قد أوحى لهاتين المراهقتين بهذا الكذب الفاحش! وهو، هل يعتقد ان فتاة تكذب

على والديها ستحبه بصدق وتكون وفية له؟ كيف له ان يثق بمن يخرج منها هذا الخبث؟ الا ان يكون هو

اكثر منها خبثا! بعد قليل، رأيت الفتاة التي خلعت "الحجاب" قادمة نحوي، فاتت وجلست على المقعد

الشاغر الى جانبي، ولكنها كانت قد خلعت معظم ملابسها وليس فقط غطاء الراس! القت تحية علي

فرددتها ولم اعرها انتباها بعد ذلك. وبعد وهلة رايت يدها تمتد الى العشيقين وضربت الفتاة على

راسها، ليتضح لي بعد ذلك انها الصديقة التي يفترض انها ستمضي يومين معها في البيت. طلبت

"المحجبة" من صديقتها مرارا ان ترقص معها، لكن الأخرى لم تستطع مفارقة حضن العشيق

المزعوم. وحين ياست، بدأت توجه اهتمامها نحوي بنظرات مبتسمة، اما انا فلم اكن اود النظر

اليها خشية ان افتتن بجمالها. فكنت استرق النظر اليها بين الحين والأخر، في كل مرة استرق

في النظر كنت اجد نظرها مصوبا نحوي. مرت لحظات استثقلتها على هذا الحال. وأخيرا، انطلقنا.

 بدأت السيارة  بالتحرك، فجلس الجميع وانتهى الرقص. ورغم وجود عدد من المقاعد الشاغرة، ورغم

ان الفتاة "المحجبة" كانت تعرف عددا من الموجودين، الا انها بقيت مصرة على الجلوس بجانبي.

فخطرت ببالي فكرة، فكرت انني يجب ان استغل الفرصة، لعل هذه الفتاة تكون مفتاحا لفهم اقبال

الشباب على هذا النوع من الرحلات رغم ما يشوبها من مخاطر وشبهة حول الأشخاص المنظمين لها

وما يسمح به من ممارسات داخل النقل. ولم اتردد، وعلى الفور اختلقت سؤالا كان بمثابة خيط كانت

تنتظره لتخلق هي حوار وفر علي الجهد. حاولت جهدي ان لا ابدو كمحقق وانهال عليها بالأسئلة، اردت

ان اجعلها مرتاحة تماما ومطمئنة وقد نجحت في ذلك. علمت انها طالبة جامعية في الثامنة عشر من

عمرها. خطر لي ان اسالها عن السبب الذي يجعل فتاة مثلها تتواجد في مكان كهذا.. لكني سكتت! من

جهة كنت معجبا بها، ومن جهة أخرى احسست بالشفقة عليها. ولكنها قطعت الصمت بطلب استغربته!

فقالت لي: يبدو انك وحدك.. ان لم يكن لديك رفيق في هذه الرحلة، فلا مانع عندي من مرافقتك ان اردت.

هل انا اسمع جيدا ام اني اتوهم؟ هل هذا عادي؟ حسنا لايهم، سأوافق على هذا العرض. بدا على وجهها

الابتهاج لموافقتي، بينما بقيت انا مذهولا لا افهم شيئا من جرأة هذه الفتاة التي تعدت خلع الغطاء

والرقص امام العلن، الى الوثوق بشخص غريب وطلب مرافقته.

 وبعد ليلة من السفر، اشرقت الشمس وكدنا نصل. بينما كنت نائما احسست بدغدغة ناعمة في

وجهي، فاستيقظت لأجدها نائمة على كتفي.. فزعت وانتفضت لا شعوريا، فاستيقظت مفزوعة هي

الأخرى.. ثم نظرت الي مبتسمة وقالت: صباح الخير عزيزي، هل كدنا نصل؟ فأجبت ببرود: نعم، اعتقد

اننا سننزل خلال دقائق. وبالفعل، نزلنا بعد لحظات، وقبل ان ننزل، تحدثت مع صديقتها وقالت لها انها

ستمضي النهار معي ولن ترافقها وعشيقها. نظام الرحلة انه بعد النزول من السيارة يذهب كل الى حيث

يشاء، أي انه لايوجد برنامج محدد. فصاحب السيارة والمنظمون ليسوا الا متطفلين على مجال

السياحة، وبالتالي فان تنظيم برنامج للرحلة لضمان امان السياح ليس من اولوياتهم، بل كل

ما يهمهم هو استثمار ذلك الشيء المتنقل لكسب الأموال منه، وتلك الأرواح، ليست بالنسبة لهم

الا وسيلة مؤقتة. شعرت بالغضب الشديد لعدم مبالاة هؤلاء بسلامة الناس واستهتارهم، لكني اخفيت

هذا الغضب، وحاولت ان اطمئن قليلا واحاول استثمار الوقت برفقة الفتاة "المحجبة"، لأكسب منها

بعض المعلومات. اول شيء فعلناه تناولنا الفطور في احد المقاهي، وكانت طيلة الوقت تحاول ان تبدو

ودودة وجذابة الى درجة اني احسست انها تمثل. الفتاة بدأت من تلقاء نفسها تضع برنامج الى الأماكن

التي سنتوجه لها وما سنفعله وكأنها تعرفني منذ زمن بعيد.

 بعد خروجنا من المقهى، تمشينا قليلا لكي نستقل الباص لنزور مكانا قالت اننا سنمضي وقتا ممتعا فيه.

فقررت ان ابدي بعض الاستياء من عدم وجود برنامج للرحلة. فسالتها: الا تعتقدين ان عدم وجود

برنامج للرحلة هو عمل غير احترافي؟ فضحكت بصوت عال ثم قالت: وما علاقة المنظمين بالاحترافية!

انهما مجرد شابين عاديين. ثم تابعت: السائق كان فيما مضى تاجر مخدرات، وامضى سنتين في

السجن. وهناك تعرف على زميله الذي كان يستقبل الناس على باب السيارة قبل ننطلق. وبعد خروجهما

جمعا اموالهما معا واشتريا تلك السيارة. لقد اذهلني ان تعرف كل هذه التفاصيل، وحين سالتها، قالت ان

السائق يسكن في نفس الحي الذي تقطن فيه. ومن هول الصدمة لم استطع من نفسي من طرح سؤال

اردت منذ البداية طرحه عليها، فقلت: وما الذي يجعل فتاة مثلك تثق بتاجر مخدرات وسجينين سابقين؟

فتوقفت عن المشي، ونظرت لي نظرات جدية وقالت: انا لا اثق بأحد. كل ما يهمني هو ان اقضي وقتا

ممتعا. وهل يستحق الاستمتاع الكذب والتضحية بالسلامة الشخصية؟ انا نفسي لو اني علمت منذ البداية

من يكون هؤلاء المتطفلون على مجال السياحة لم اكن لاتجرء على الذهاب معهم. لابد ان هذه الفتاة

ومثيلاتها يعشن فراغا عميقا او الما نفسيا جعلهن لايبالين بشيء. لا اخلاقا تذكروا ولا من الخطر خافوا.

 في اعماقي نفسي، احترت على من القي اللوم. هل على الآباء المقصرين في حماية ومتابعة أولادهم؟

ام القي اللوم على الذين يستدرجون المراهقين بتوفير فرصة لهم ومكان لإخراج كبتهم بصيغة ادنى من

الحيوانية في عشوائيتها؟ هذه الفتاة التي معي تصرفت بطيش ووثقت بي وهي تعتقد انها لاتثق بأحد

وانها قادرة على حماية نفسها. حسنا، ماذا لو لم اكن انا؟ ماذا لو كان من رافقها شخصا خبيثا لايعرف

الرحمة، ما الذي كان سيحل بهذه الفتاة؟ وهل كل فتاة جريئة ترافق الغرباء ستنجو في كل مرة ترافق

فيها غريبا؟ والاهم، اين دور الدولة في محاربة هذه الظواهر العشوائية؟ علما ان بعض هذه الرحلات

تكون بموافقة البلدية. وهكذا، عدت من الرحلة محطم الفؤاد حقا لما رايته وعشته، لكن الفتاة

"المحجبة" بقيت صديقة مقربة لي. وقد اخبرتها فيما اتى من الأيام انني وافقت على مرافقتها في ذلك

اليوم لأجل استجوابها. والحمد لله استطعت اقناعها بخطورة تلك الرحلات والوثوق بالغرباء. وبدأت مع

الوقت تدرك طيش تصرفاتها وما قد ينتج عنه، وأصبحت تحسب خطواتها جيدا. أتمنى ان تكون كل

فتاة تعرض نفسها لخطر الوثوق بالغرباء محظوظة مثل الفتاة "المحجبة". لكن الواقع غير ذلك.



   نشر في 15 يناير 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا